عندما أُعلنت، في 4 يونيو/حزيران 2018، وفاة أحمد سعيد، الإذاعي المصري السَّابق بمحطة «صوت العرب»، عن 92 عاماً، قالت غادة السَّمان، إنها فوجئت؛ إذ كانت تعتقد أنه رحل من زمان! وفي الواقع لم تفاجأ الأديبة اللبنانيَّة وحدها، وإنما فوجئت معها أجيال من العرب، الذين ما عادوا يسمعونه، أو يسمعون عنه، منذ انتهت حرب يونيو 1967، بعد أن كان صوته الجَّهوري لا يخفت، لحظة، طوال أيَّام الحرب السِّتَّة، يبشِّر الأمَّة العربيَّة، أجمعها، بانتصارات باهرة لم تكن تتحقَّق إلا على صفحات تقاريره الإخباريَّة، وطائرات «إسرائيليَّة» لم تكن تتساقط، كالجَّراد، سوى في أوهام بثِّه الإذاعي، حتَّى استيقظ النَّاس، في اليوم السَّابع، على طعم الحقيقة الحنظلي توزِّعه نبرات صوت الزَّعيم الوحدوي عبد النَّاصر تعلن استقالته للمدائن والقرى، وهو الذي ما كفَّ، يوماً، عن استنهاض العرب، من الماء إلى الماء، باتِّجاه الصُّمود، والتَّحدي، والاستبسال في الدِّفاع عن العزَّة والكرامة في وجه الحلف الإمبريالي الصُّهيوني. من يومها اقترن اسم أحمد سعيد، في أذهان الملايين، بشيئين: الهزيمة والإعلام الكذَّاب، فأصاب كلاهما المدَّ القومي العربي في مقتل!
وفي الحقيقة لم يكن ما يمارسه المرحوم وإذاعته، أوان ذاك، إعلاماً يستهدف النَّشر الموضوعي للأخبار والمعلومات كما هي؛ بل بروباغاندا Propaganda
، في معنى الدِّعاية الموجَّهة؛ بغرض القولبة لعقول الجَّماهير، والتَّأثير على عواطفها. وقد كانت الصَّحافة والراديو والتِّلفزيون بمثابة السُّلطة الجَّبَّارة، على أيَّام أحمد سعيد، في صناعة هذه الدِّعاية، وخلق هذا التأثير. فمثلاً كوَّنت أمريكا، خلال الحرب الأولى، لجنة متخصِّصة في هذا المجال؛ بغرض إسناد عسكرها. كما أسَّست بريطانيا، خلال الحرب الثَّانية، وزارة متخصِّصة، أيضاً، للتَّحريض ضد الألمان. وفي تجربة البناء الستاليني للدَّولة في الاتِّحاد السُّوفييتي، وبلدان الدِّيموقراطيَّات الشَّعبيَّة، لم توضع خطوط فاصلة بين الإعلام والدعاية. فإضافة إلى الصُّحف، ومحطات التلفزة الموجَّهة، صُمِّمت، أجهزة راديو صغيرة الحجم، خفيفة الوزن، تعلق على جدران المساكن، وأماكن العمل، وتظلُّ تبثُّ برامج البروباغاندا، ليل نهار، في ما يشبه التَّشغيل الذَّاتي.
وهكذا لم يكن أحمد سعيد وحده، عربيَّاً وعالميَّاً، في هذا المضمار. فثمَّة شخصيَّات اقترنت، قبله وبعده، بآليَّات البروباغاندا في مختلف البلدان، من أشهرها باول جوزف غوبلز ويونس صالح الجَّبوري (يونس بحري)، في ألمانيا النازيَّة، ومحمَّد سعيد الصّحاف في عراق صدَّام حسين.
فأمَّا غوبلز فهو وزير هتلر للدِّعاية السِّياسيَّة، وأحد أهمِّ أذرعه في ألمانيا النَّازيَّة. وقد اشتُهر بقدراته الخطابيَّة، وأساليبه الماكرة في التَّرويج للفكر النَّازي. كما اشتهر بقوله: «أكذب.. أكذب حتَّى يصدِّقك النَّاس»، و«كلما سمعت كلمة ثقافة تحسَّست مسدَّسي»! وكان أحد أشرس من استخدم محاكم التَّفتيش Inquisition
، وأحد أبرع من استخدم أجهزة الإعلام للبروباغاندا كأداة إيديولوجيَّة؛ لاستثارة غرائز الفتك في خدمة الاستراتيجيَّة النَّازيَّة الرَّامية لإخضاع العالم بأسره. وقد لعب أخطر الأدوار، منذ الحملة الانتخابيَّة التي رفعت هتلر إلى كرسي المستشاريَّة، في تقديمه للذِّهنيَّة الألمانيَّة كمنقذ وحيد. ثمَّ بقي لصيقاً به، ووفيَّاً له، طوال فترة حكمه (1933 1945)، وحتَّى انهيار الرَّايخ الثَّالث، ثمَّ انتحار هتلر، عندما لاحت نُذُر الهزيمة، ليتبعه غوبلز نفسه منتحراً، هو وزوجته، بعد أن قتلا أطفالهما السِّتة.
وأمَّا يونس بحري فهو العراقي الغامض الذي طاف العالم، وتزوج بالعشرات، وأنجب المئات، وأتقن العديد من اللغات، وعمل في كلِّ المهن، من الوعظ الدِّيني، إلى الصَّحافة، إلى طهي الأطعمة(!) فضلاً عن الأدوار المشبوهة، التي لعبها في مختلف الأنظمة العربيَّة، ومهام البروباغاندا التي أدَّاها من خلال شتَّى الانقلابات والأزمات السِّياسيَّة التي مرَّت بها. ولعلَّ أخطر «إنجازاته» تأسيس إذاعة «برلين الحرَّة» النازيَّة الموجَّهة إلى العرب، والتي كان يكتب موادَّها بنفسه، ويقدِّمها بصوته، تحت إشراف غوبلز، على أيام الحرب الثَّانية. ولئن كنا غير محتاجين لاجترار مضامين تلك البرامج القائمة على البروباغاندا، فإننا لن نغفل الإشارة إلى استغلاله حتَّى للمقدَّسات؛ حيث أقنع هتلر وغوبلز بجدوى افتتاح تلك الإذاعة بالقرآن الكريم؛ لجذب انتباه المستمعين العرب، وصرفهم عن الاستماع إلى البي بي سي! وربَّما كان من الغرائب أنه، برغم كلِّ أحكام الإعدام والسِّجن التي صدرت ضدَّه في البلدان العربيَّة، إلا أنه نجا منها كلها، وعمَّر حتَّى توفي، وحيداً فقيراً، ببغداد عام 1979م!
وأمَّا الصَّحَّاف فيكاد يمثِّل فصلاً بأكمله في كتاب صدَّام ونظامه في العراق. فقد صعد من مدرِّس لغة إنجليزيَّة مغمور إلى منصبي وزير الخارجيَّة والإعلام. ومن موقعه الأخير أدار حرب البروباغاندا، لا الإعلام، ضدَّ الغزو الأمريكي عام 2003؛ حيث اشتهر بتسميته للغزاة ب «العلوج»! وعلى حين كان يعلن انتصار القوَّات العراقيَّة، وهزيمة الأمريكان، كان الأخيرون يستكملون اقتحام بغداد. ومن الغرائب أنه سلم نفسه، بعد ذلك، للغزاة، إلا أنهم أطلقوا سراحه، معلنين أنه لم يكن مطلوباً لديهم!
الخلاصة أنه، برغم وجود شخصيَّات في مضمار البروباغاندا، قبل وبعد أحمد سعيد، لكن لا أفاد هو من عبرة السَّابقين، ولا أفاد اللاحقون من عبرته!
جريدة الخليج