يشتكي مفكر كبير هو التونسي هشام جعيط مما يصفه ب «غياب المتابعة النقدية المستمرة للإصدارات الجديدة» في المجالات المختلفة في بلاده تونس.
وتونس بالذات من بين أكثر البلدان العربية ديناميكية في الحقلين الثقافي والفكري، لذا علينا أن نتخيل ما عليه الحال في بلدان عربية أخرى ليست على نفس الدرجة من تلك الديناميكية، بل إنها دونها بكثير.
يستوقفنا أيضاً في حديث جعيط الذي جاء في نطاق حوار أجراه معه مواطنه حسونة المصباحي ونشرته مجلة «نزوى»، إشارته إلى تراجع الاهتمام بالثقافة في تونس بعد التغييرات الحاسمة التي حصلت فيها إثر سقوط نظام زين العابدين بن علي، ورغم إدراكه أن البلاد تمر بمرحلة انتقالية صعبة، هي بمثابة المخاض المؤلم، حيث تطغى الانشغالات السياسية على ما سواها، لكنه ينبه إلى خطورة تهميش الثقافة من قبل السياسيين.
ما نحن بصدد التركيز عليه هنا هو الآثار السلبية الناجمة عن غياب النقد، وهو غياب يؤدي إلى أن «تصاب الثقافة بالتسطح» بتعبير هشام جعيط، ذلك أن الأخبار الصغيرة المختصرة جداً التي تنشرها الصحف عن الإصدارات الجديدة، لا تكفي، ففضلاً عن أنها لا تعوض غياب النقد الجاد، فهي لا تحفز القراء لمطالعة ما هو جديد من إصدارات.
يحدث كثيراً في بلداننا أن يطوي النسيان بسرعة كبيرة إصدارات مهمة، لا يجري الالتفات إليها بالصورة التي تستحقها، وليس بالضرورة من موقع الاتفاق مع مؤلفيها في ما ذهبوا إليه، وإنما أيضاً من موقع الاختلاف، أو من الموقعين معاً في الآن ذاته، واستنباط أسئلة جديدة من الذي أثارته كتبهم، سواء جاءت في صورة أعمال إبداعية في مجالات الرواية والقصة والشعر والمسرح وما إلى ذلك، أو في صورة دراسات ثقافية أو تاريخية، أو في علمي الاجتماع والاقتصاد وغيرهما.
تتلخص الفكرة، أو بالأحرى تتمحور، حول ضرورة توليد الجدل والسجال، فعبر ذلك تغتني الحياة الفكرية والثقافية في المجتمع المعني، ويتم تخصيب آليات الحوار والبحث والتقصي، المؤدية إلى فضاءات للمعرفة غير مسبوقة، أو إغنائها بأطروحات جديدة.
يمكن لنا أن نتذكر مراحل سابقة من حياتنا الأدبية والثقافية العربية تميزت بهذا النوع من السجال والحوار حول الإصدارات الجديدة، الذي وإن اتسمّ بعضه بالحدة في أحوال معينة، إلا أنه أثمر ثراء فكرياً وأدبياً ما زالت أصداؤه مستمرة حتى اليوم.
يمكن القول، بدرجة كبيرة من الاطمئنان، إن غياب هذا الجدل هو أحد مسببات الجدب الثقافي الراهن.
جريدة الخليج