«أحمد الحفناوي بعد الثورة في أتعس أيامه». هكذا عبّر صاحب الجملة الشهيرة «هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية» عن أسفه على تلك الجملة التي قالها يوم 14 يناير من عام 2011 أمام عدسة الكاميرا، وتلقفتها قنوات الفتنة لتتاجر بها إبان ما أطلقت عليه مصطلح «الربيع العربي» زوراً وبهتاناً.
المواطن التونسي أحمد الحفناوي، الذي أصبح نجماً، ليس في بلده تونس فقط وإنما في الوطن العربي كله، بعد عبارته تلك، أجرت معه إحدى القنوات التلفزيونية التونسية حواراً في المكان نفسه الذي قال فيه عبارته تلك، بعد سبع سنوات من ذلك التاريخ الذي أطلقها فيه، فماذا قال الحفناوي عن تلك اللحظة، وأين كان، وأين أصبح؟
سأله المذيع عن بداية الحكاية فروى له أحمد قصة تلك الجملة الشهيرة، وكيف قالها وهو مرهق، بعد ليلة لم ينم فيها، وقال إنه كان خائفاً لأن هناك قناصة وأمناً غير مستتب وأشياء كثيرة.
طلب منه المذيع أن يعيدها فقال إنه غير قادر على إعادتها لأن وقتها قد مضى. استوقف المذيع بعض المارة، وسألهم ماذا يقولون لصاحب عبارة «هرمنا…» بعد سبع سنوات من إطلاقها، فأجاب أحدهم قائلاً: «ماذا أعطتنا اللحظة التاريخية؟». وقال آخر إن الذي يحدث الآن لم يحدث من قبل، مضيفاً أنهم تصوروا أن يذهبوا للأفضل، لا أن يعيشوا مطاردين. بينما قال ثالث: «لا.. لقد ندمنا».
مرة أخرى توجه المذيع إلى الحفناوي وسأله عن حقيقة ما ردده الكثيرون من أنه قد ربح من الثورة وحصل على أموال كثيرة، فقال إنه قبل الثورة كان يملك مقهى، وإنه باع المقهى بعد الثورة «بأتفه الأثمان»! ثم ختم قائلاً: «أحمد الحفناوي بعد الثورة في أتعس أيامه، مثل كل الشعب».
الحفناوي بدا في التقرير التلفزيوني، الذي عبر فيه عن تعاسته بعد الثورة، أكثر هرماً من الصورة التي رأيناه عليها عندما قال جملته الشهيرة تلك، وطغت على صوته نبرة حزن وأسى لما آلت إليه الأوضاع في بلده تونس، بعد أن كان الأمل يغمر نفسه بالانتقال إلى وضع أفضل من ذلك الذي كانوا فيه قبل أن يهرم.
وهذا ينطبق على كل الدول التي آلت الأوضاع فيها إلى ما آلت إليه، بعد السنوات السبع العجاف التي مرت بها، فهل تكمن المشكلة في الشعوب التي تم خداعها وإغراؤها بإحداث هذه الفوضى في أوطانها، أم تكمن في أولئك الذين ركبوا موجة الثورات للوثوب إلى السلطة والاستيلاء على الحكم، ثم وجدوا أنفسهم عاجزين عن إدارة تلك البلدان، وإيصالها إلى بر الأمان، لينسحب بعضهم بإرادته، ويتم إزاحة بعضهم الآخر بإرادة الشعوب التي كشفت نواياهم ورفضتهم؟
ربما نحتاج وقتاً لاستيعاب ما حدث في تلك البلدان التي عصف بها ذلك الربيع المزعوم، وربما تختلط الحقائق بالأكاذيب التي سنسمعها من أولئك الذين تصدروا المشهد ونسبوا لأنفسهم بطولات هم أبعد ما يكونون عنها.
وربما نستعيد أدواراً قامت بها بعض أجهزة الإعلام التي أججت الفوضى، ضخمت من خلالها أشخاصاً اختفى بعضهم سريعاً من المشهد، وقفز بعضهم إلى السلطة بشكل بهلواني أفقدهم صوابهم، فوقعوا في شر أعمالهم، ليجدوا أنفسهم خارج المشهد بالسرعة نفسها التي دخلوا بها.
لكن المؤكد أن أحمد الحفناوي وأمثاله من الناس الطيبين الذين خسروا من تلك الثورات ولم يكسبوا شيئاً، هم ضحايا لأمنيات طيبة هي الأخرى، وأن محاسبتهم على نواياهم الطيبة ظلم لهم، وللأدوار التي قاموا بها أثناء تلك الأحداث في تلك الأوقات العصيبة والملتبسة.
أحمد الحفناوي لم يكن عميلاً ولا مؤدلجاً ولا ساعياً إلى سلطة كما بدا في تلك اللقطة، التي قال إنه كان مرهقاً، لم ينم طوال الليل، عندما سجلها، معترفاً بأن كلماته تلك كانت خارجة من القلب.
أحمد الحفناوي مواطن تونسي طيب، كان يحلم لبلده بوضع أفضل يجنب أبناءها الهجرة إلى ما وراء البحار، والحلم بالإقامة والعمل والعيش في تلك الدول التي كانت ذات يوم تستعمر بلدان المغرب العربي الكبير، وهي تطارد اليوم قوارب المهاجرين الذين يخاطرون بأرواحهم من أجل فرصة ربما يقتنصونها في تلك البلدان.
لذلك تحمس أحمد لهؤلاء الشباب، وهيأ لهم مكاناً آمناً في المقهى الذي كان يملكه، ليعبروا عن أفكارهم. لكن المتآمرين والمؤدلجين وطلاب السلطة ركبوا الموجة ليصلوا إلى سدة الحكم، وكان لهم ما أرادوا، فماذا فعلوا؟
بدأوا في تنفيذ أجنداتهم، واستحوذوا على كل شيء مستغلين حالة الفوضى تلك، وأقصوا كل البسطاء المخلصين الذين هيأوا لهم الظروف للوصول إلى سدة الحكم، فأعادوا تلك البلدان سنوات إلى الوراء. لكن القاعدة تقول إنه لا يصح إلا الصحيح، لذلك ستعود تلك البلدان أفضل مما كانت، ويعود إلى أحمد الحفناوي ورفاقه الذين هرموا صباهم.
هذه هي طبيعة الحراك الإنساني كما رأيناه في بلدان كثيرة، أولها تلك الدول التي يسعى شباب تونس والمغرب العربي، وكثير من العرب المنكوبين في أوطانهم، للهجرة إليها، متحدين أمواج البحر، ومطاردة سلطات تلك البلدان لهم.
أحمد الحفناوي وكثير من المحبين لأوطانهم ربما يعيشون الآن أتعس أيامهم مثل أحمد، لكنهم يجب أن لا يشعروا باليأس، لأن من يملك إرادة الحياة يملك الأمل. ومن يملك الأمل لا يهرم أبداً، حتى لو اشتعل الرأس منه شيبا، مثلما هو رأس أحمد الذي كان يمرر يده عليه وهو يقول عبارته تلك التي ذهبت مثلاً.
جريدة البيان