كانت حرب أكتوبر 1973 قد قامت، والجيش المصري يتقدم على خطوط الجبهة، والإذاعة المصرية تبثّ الأغاني الوطنية المعروفة، حين تلقى الإذاعي الكبير وجدي الحكيم اتصالاً هاتفياً من الموسيقار بليغ حمدي يحتج فيه على ما جرى تداوله من أنه ليس لدى الإذاعة نية لتسجيل أغانٍ وطنية جديدة والاكتفاء بالقديمة.
قال بليغ للحكيم وهو غاضب: «يعني أيه ما نعملش أغاني وطنية جديدة. أنا عايز أعمل حاجة لبلدي». وراح الحكيم يشرح له أنه لم ترصد ميزانية إنتاج مثل هذه الأغاني، ولكن بليغ لم يقتنع وهدّد من يهاتفه بأنه سيتهمه بالخيانة.
وهو يغلق سماعة الهاتف قال بليغ: «أنا ح أجيلك الإذاعة»، دون أن يكترث بتحذير الحكيم من أن لدى الأمن تعليمات مشددة بعدم السماح لأي كان بدخول المبنى.
وبعد بعض الوقت اتصل رجال أمن الإذاعة والتلفزيون بمكتب الحكيم يبلغونه بأن بليغ حمدي ووردة الجزائرية عند الباب ويلحّان على مقابلته، فنزل لاستقبالهما ليجد بليغ ثائراً ومصمماً على أن يستدعي بوليس النجدة ويحرر محضراً ضد الحكيم لمنعه إياه من تسجيل أغانٍ وطنية خاصة بحرب أكتوبر.
حاول الثاني امتصاص غضب بليغ واتصل بمدير الإذاعة وقتها بابا شارو، وصعد الجميع إلى مكتبه، وهناك أعاد شارو ما قاله الحكيم لبليغ من أنه لا توجد ميزانية لتحقيق رغبته.
أمسك بليغ ورقة وقلماً وكتب: «أتحمل أنا بليغ حمدي جميع المصاريف وأتنازل عن أجري وأجر وردة وسأدفع فلوس المؤلف وأجور جميع الموسيقيين والكورال»، ووقع التعهد بإمضائه. أسقط في يد مدير الإذاعة ولم يجد مناصاً من أن يفتح الاستوديو له، وعند الثانية عشرة ليلاً انتهى بليغ من تسجيل أول أغنية التي كانت «باسم الله».
استمع مدير الإذاعة عدة مرات للأغنية قبل إذاعتها وقال مخاطباً الحكيم: «ما تعرفش الواد بليغ ده بيطلع الحاجات دي إزاي».
لم يفارق بليغ حمدي مبنى الإذاعة والتلفزيون يومها. ظلّ هناك بالليل والنهار يلحّن ويسجل، وباتت مصر كلها تغني معه «باسم الله» و«وأنا على الربابة بغني».
تلك صفحة من الحياة الحافلة لبليغ حمدي رواها أيمن الحكيم في كتابه عن الرجل الذي قال هو نفسه إنه أتى الدنيا ليلحن، تلك كانت رسالته، تاركاً الحكم على قيمة ما لحن للتاريخ. وحين سئل عن حياته قال إنه لخّصها في الأغنية التي تقول: «لا القلب يوم ارتاح ولا بطّل سفر. قلبي كده. سفر. سفر. الدنيا سفر وفراق وسفر.. والقلب ياناس مشتاق للسفر».
جريدة الخليج