لماذا تجاوز النحويّون مجال اختصاصهم وتدخّلوا في ما لا يعنيهم؟ هل أرادوا التوسع كأن تطالب وزارة الصحة بوزارة الزراعة بدعوى سلامة الأغذية؟ لقد أرادوا التعقيد، على طريقة الدعابة الفرنسية: «الأمور بسيطة، فلم لا نعقّدها؟». سامح الله القلم الذي همزهم بقوله: إن النحاة رأوا أن الفلسفة غير مرغوب فيها وفي أهلها، فدخلوها من أبواب النحو، فلم يعد النحو نحواً ولم يصر فلسفة. تماماً مثل قصّة مشية الغراب.
هذه قطرة من بحر، وسنرى أن منطق النحويين يفتقر إلى المنطق. المقلق هو انعكاس التعقيدات على علاقة الأجيال باللغة، فالعربية ستبدو لهم ثقيلة منفّرة. الكارثة، لو علم الطالب في بداية الطريق أنه سيتخرّج في الجامعة وهو لا يحسن كتابة صفحة بلا أخطاء، إلاّ من رحم ربّك. خذ مثلاً الاستفهام، وهو من الأبواب الطريفة لاكتشاف هرطقات النحاة. في هذا الدرس، على المسكين حفظ عشرة أنواع من الاستفهام بشواهدها: الإنكاري، التوبيخي، التقريري، التهكمي، التنبيهي، التحقيري، التعجبي، التفخيمي، التجاهلي، الترغيبي.
يا علماء لغتنا: هذه التفاصيل العشرة فيها مجموعة أخطاء تثقلون بها كاهل ابن السبيل في مناهج العرب، من دون مبرّر. لقد فاتكم، كما فات أسلافكم، أن النحو تقتصر مهمّته على تحديد وظيفة الكلمة أو الجملة ودورها، فقط لا غير. للتوضيح: وظيفة ساعي البريد إيصال الرسالة، لا تقديم تأويلات قراءاتها المختلفة. لتأكيد الإيضاح: مهمّة النحو تحديد المهنة: طبيب، حدّاد، محام، فلاّح… مثلما في جواز السفر، لا مجال لذكر ما إذا كان المزارع يزرع البطيخ أو الطماطم أو الباذنجان. الخطأ الثاني: أنواع الاستفهام مكانها البلاغة لا النحو، بدليل أن النوع لا يغيّر الوظيفة. ما دخل النحوي في الزي الذي يرتديه الاستفهام: بدلة رسمية أم شورت سباحة؟ الخطأ الثالث: التفاصيل العشرة غلط: التوبيخي يمكن أن يكون تهكّمياً وتحقيرياً وتعجّبيّاً وترغيبياً. الأدب يحدّد ذلك لا النحو. الخطأ الرابع: هل استقصى النحاة كل إمكانات العربية البلاغية والأسلوبية، ما ورد وما لم يرد في النصوص، حتى يحدّدوها بعشرة فقط؟
لزوم ما يلزم: النتيجة الرياضيّة: نريد نحواً في رشاقة الجمباز، ويريده النحاة مثل مصارعي السومو اليابانيين.
جريدة الخليج