لماذا تخلو فنوننا من تجاوب الفنون؟ لأن تاريخنا الثقافي لم تظهر فيه فلسفة للفن. لدينا شذرات متناثرة، لكنها تشبه الجداول الصغيرة التي لم تلتق ولم يكن لها مصبّ يجمعها.الأدب الصوفيّ تحدث كثيراً عن تجاوب الحواس، ولكن لا أحد بنى عليه فألهم الفنون التوحّد في تيارات متزامنة ذات رؤية واحدة وطرائق تعبير مختلفة.
تخيّل القلمُ أن من القرّاء من توقف في عمود الأمس «أرخبيل الشتات الثقافي» عند: «لم نشهد تناغماً بين العمارة والموسيقى، بين الرسم والشعر». سيقول ساخراً: تريد إيهامنا بوجود علاقة ممكنة بين «بعيد عنك حياتي عذاب» وبين شكل من أشكال العمارة في مصر، أو بين أعمال حافظ الدروبي، التشكيلي العراقي الرائد، وبين أشعار عبدالوهاب البياتي؟ هذه هي المسألة.
المبحث قضية فكرية تنمويّة في غاية الحساسية، الوسط الثقافي هو المسؤول عن إيصالها إلى المستوى الذي تصير فيه قناعة راسخة لدى أصحاب القرار. لنأخذ المثل الأشهر والأكبر في كل تاريخ الفنون عالمياً، ألا وهو فن عصر الباروك، من حوالي 1650 إلى 1750، الذي شمل العمارة، الرسم، الأدب، الموسيقى، الرقص والديكور.«اجتاح» أوروبا كلها، وانتقل إلى القارة الأمريكية. معنى ذلك وجود «عمل مشترك» بين مكوّنات الثقافة. خذ الصورة المجرّدة وطبّقها على الأداء العربيّ العام، ثم على المكوّنات الداخلية لكل بلد. سترى المأساة في جميع الميادين. ما يجعل مكوّنات الثقافة غير متجاوبة في الأداء العام، هو بالضبط علّة عدم قيام تنمية شاملة في البلدان، وفي ما بينها كعمل مشترك، أي غياب الفكر التكاملي.
غياب الفكر التكامليّ يفتح باب التحليل القاسي. لا مفرّ من إدراك أنه بدائية فكرية وثقافية، لانعدام البنية التأهيلية الضرورية لأداء الدماغ في مستوى أرقى. القضية لا علاقة لها في الأساس بالمجالات المختلفة، فهي نظام عمل عام شامل، وموجّه عام لا دخل له في نوع الأداء وتفاصيل موضوعه، الثقافة والاقتصاد والتعليم والصحة والأشغال العامّة وما سواها سواسية في روح الأداء. قيادة الأوكسترا فكرة إدارية قيادية مجرّدة، تنسيقية توفيقية، أساليب دقة تنفيذها، تنطبق على تجاوب أداء الوزارات والمؤسسات والمنظمات، آلات العمل المشترك للدول، تعدّدية الأصوات المتناغمة في حرّيات الحياة الديمقراطية…لأن آلات الفرقة متباينة في الأصوات، موادّ الصنع، الأبعاد وأفضلية التعبير (الأوبوا أفضل للتعبير عن صوت البلبل من العود والبيانو)، ولكن اختلافاتها وتنوّعها هي سرّ عظمة تألقها في الأداء العام. الغاية واحدة.
لزوم ما يلزم: النتيجة الكونفوشيوسية: حكيم الصين أوصى بإعادة التأهيل الإداري لموظفي الدولة سنوياً، نسي أهل الثقافة.
جريدة الخليج