حسناً فعل الصحافي والمحاور اللّبق والمثقف توفيق مجيد في استضافة ندى يافي المترجمة الفورية للرئيسين الفرنسيين السابقين فرانسوا ميتران وجاك شيراك وسفيرة فرنسا السابقة في الكويت ومديرة مركز «اللغة والحضارة» في معهد العالم العربي في باريس سابقاً، ضمن برنامج «حوار» على تلفزيون «فرانس 24» العربي، بعد إعلان وزير التربية الفرنسي ميشال بلانكير دعمه الاقتراح الذي قدّمه معهد «مونتاني» للدراسات والبحوث بتعليم اللغة العربية في المدراس بهدف «محاربة التطرّف الإسلامي».
فلا يزال الجدال قائماً في بلاد النور منذ ما قبل الانتخابات الفرنسية الأخيرة وبعد الاعتداءات المتكررة التي نفّذتها الجماعات المتطرفة في فرنسا في السنوات الأخيرة، حول اعتبار اللغة العربية لغة إرهاب ولغة طائفية، خصوصاً من جانب اليمين الفرنسي. لكن الكتاب الذي أصدرته يافي بعنوان «اللغة العربية لغة عالمية» هو أفضل ردّ على مهاجمي اللغة العربية.
بدأت يافي حوارها بجملة جميلة تصلح لتكون شعاراً للغة العربية، وهي «اللغة وطن مشترك». وأردفت: «أنا وطني هو اللغة العربية من جملة الأوطان التي أشعر بانتمائي إليها». وهل هناك أرقى وأنبل من هذا الردّ الذي يمكن أن نعلّمه لأولادنا الذين يتحدث معظمهم بالإنكليزية والفرنسية متجاهلين لغتهم الأم؟
لفتت يافي في حديثها الشيّق والقصير والمكثّف على «فرانس 24» إلى أن اللغة العربية لطالما كانت لغة انفتاح وعلم وطب وفلك وليست فقط لغة أدبية، فـ «أدباء النهضة الفرنسية أثنوا على العربية لأنها تحفّز العقل والانفتاح»، مذكّرة من يجهلون أهمية لغة الضاد وجمالها وموسيقاها الخاصة بأن فرنسا تعرفها منذ قرون وأنشأ لها ملكها هنري الثالث في العام 1587 منبراً خاصاً في أعرق مؤسسات الدولة «الكوليج دو فرانس». ومن هنا اعتبرت أن «اللغة العربية ليست ملك العرب وحدهم وإنما هي ملك من يتحدثون بها ويريدون التواصل بها». ولا ننسى أن فرنسا كانت أول بلد، وعلى الأرجح البلد الغربي الوحيد في العالم الذي لديه مؤسسة متخصصة بالثقافة العربية وهي معهد العالم العربي في باريس الذي ساهم في تقريب الوجهات وبابه مفتوح منذ سنوات طوال للتعريف بثقافات العرب المتنوعة. وكان رئيس المعهد الوزير السابق جاك لانغ ردّ بنفسه على اتهام العربية بالطائفية، مدافعاً عنها قائلاً: «الأحمق وحده يربط اللغة العربية بالإرهاب».
تحاول ندى يافي في كتابها «اللغة العربية لغة عالمية» التدليل على أهمية لغة الضاد ومكانتها في عصر العولمة وحاجة العالم لها في مخاطبة أهلها الذين يشغلون حيزاً جغرافياً بارزاً. فاللغة العربية هي «اللغة الخامسة في العالم من حيث عدد المتحدثين بها، كما أنها إحدى اللغات الست الرسمية في منظومة الأمم المتحدة، وتنتشر في 60 دولة وكانت لغة العلوم والفكر في العالم في العصور الوسطى»، وفق يافي.
وأثنت يافي خلال المقابلة التلفزيونية، على جهود وزير التعليم الحالي جون ميشيل بلانكير لوضع اللغة العربية في المكان اللائق بها في منظومة التعليم الفرنسية، خصوصاً أن «بلاداً كبيرة غير ناطقة بالعربية بدأت تدرك أهمية هذه اللغة وتعطي لها الأولوية في مؤسساتها الأكاديمية ووسائلها الإعلامية مثل الصين وروسيا وإنكلترا والولايات المتحدة وتركيا وغيرها». لكن يافي لم تنسَ أن تحضّ على عدم تسييس اللغة وربطها بدين معيّن ولا بجامعات متطرفة تشوّه الإسلام وتشوّه التراث الثقافي العربي برمّته. وهنا بيت القصيد من المقابلة التي وضعت الإصبع على الجرح. فاللغة العربية التي يغنيها ويتغنى بها كبار المطربين مثل أم كلثوم وفيروز، هي اليوم لا تزال حيّة في الثقافة الشعبية وفي أغاني الشباب (بالفصحى وبالعامية) وعلى مواقع التواصل الاجتماعي وعلى وسائل الإعلام الجماهيرية. إذن هي لغة حياة وتسامح وتعدّدية. هي أداة تواصل وأداة مهنية تفتح آفاقاً عدة. والأهم أنها لغة شعر وحب، فهل يعلم الذين يهاجمهون العربية ويتّهمونها بالبغض والقتل والإرهاب، أن لكلمة حب وحدها مئة مرادف بالعربية؟.
على أية حال، فإن مهاجهة أي لغة جميلة وحيّة ورنانة كالعربية، هو بحدّ ذاته جهل وتقوقع. وهذا «الأحمق» كما قال جاك لانغ، لا يقلّ تعصباً وجهلاً عن العربي الذي يخجل بلغته ولا يعلّمها لأولاده أو لا يتحدث بها. فالعربية هي لغة عالمية فعلاً تستحق أن تفكر الدول العربية كلها بنشرها والإضاءة على وجهها المشرق الحقيقي، والتسويق لأهميتها، عالمياً. وذلك، بدءاً من بلدان لغة الضاد الأم.
جريدة الحياة