لم يكن الفاصل الزمني كبيراً بين الثورة الفرنسية وبواكير التنوير العربي في نهضة القرن التاسع عشر، والتي كان من روادها الإمام محمد عبده والكواكبي والذين هاجروا من بلاد الشام إلى مصر في الفترة العثمانية. لكن ما تعرض له التنوير من إجهاض سواء كان محلياً أو خارجياً أدى إلى شيء من الانقطاع، ما أتاح لأعداء التنوير أن يضعوا عصيهم الغليظة في الدواليب. ولم تكن مطاردة ومحاكمة تنويريين من طراز طه حسين وعلي عبدالرازق وسلامة موسى وغيرهم إلا التعبير الدقيق عن نزعات مضادة للتحديث. ومن حقنا أن نتساءل بعد قرن من رحيل أبرز هؤلاء النهضويين عن آفاق النهضة التي بشروا بها، وهل وئدت النهضة أم أنها عُطِّلت وأُدخلت إلى نوبة من السبات. الأرجح أن النهضة لم تمت، بل ألقت بذورها في تربة خصبة لكنها محاصرة. ولو قدر لمضادات التنوير والحملات الظلامية السوداء أن تنتصر لكان العالم العربي الآن في وضع أشد سوءاً مما هو عليه، وربما وصلت نسبة الأمية في بعض أقطاره إلى ثمانين أو تسعين في المئة بدلاً من عشرين أو ثلاثين في المئة!
والتنوير بمعناه الدقيق ليس ومضة عابرة كالبرق في ظلام دامس، إنه بشارة انعتاق وتحرر من الارتهان إلى الخرافات، لهذا فهو قد يختفي كجمرة تحت الرماد، لكنه لا يتلاشى، ولرواده أحفاد وأحفاد، أحفاد يواصلون الكدح دفاعاً عن منجزات مدنية وحضارية.
والحرب لم تتوقف ولن تتوقف بين من يحاولون النهوض وبين فقهاء تخصصوا في الإعاقة والتعامل مع المستقبل كما لو أنه طبعة منقحة من الماضي لا أكثر ولا أقل!
إن المسافة بين بواكير التنوير في عالمنا العربي وبين آفاقه تجاوزت القرن، وساهمت مضادات التنوير والتحديث في جعل إيقاعات التحول بطيئة، مما يفرض الآن حَرْق مراحل لتعويض ما فات وإنقاذ ما تبقى! –
جريدة الخليج
- 0097142243111
- info@alowais.com
- Sun - Thr: 9:00 - 16:00