شاءت الأقدار ألا يكون الشاعر الأرجنتيني الشهير خورخي لويس بورخيس، أول فاقدٍ للبصر يصبح مديراً للمكتبة الوطنية في بلاده، فقد سبقه إلى هذا المنصب اثنان؛ أتى هو على ذكر اسميهما في مذكراته هما: خوسه مارسول، وباول جروساك.
ورث بورخيس العمى من والده الذي كان محامياً. ولم يكن الوالد أعمى في الأصل، لكنه فقد بصره تدريجياً، تماماً كما سيحدث مع الابن فيما بعد، الذي كتب يقول: إن العمى كان ينال مني تدريجياً منذ طفولتي مثل غروب صيفي بطيء.
ليس والده وحده من أصابه العمى بعد تقدّمه في العمر، فتلك كانت صفة لعائلته، حتى أن وصفاً لعملية في العين أجريت لأحد أجداده ظهر على صفحات إحدى الصحف الطبية اللندنية.
وبعد نحو أربعين عملية أجريت لبورخيس أصبح كفيفاً بصورة تامة، ويومها كتب «قصيدة الهبات» التي يسخر فيها من الظروف التي أعطته النقيضين: الظلام، وثمانين ألف كتاب، هو عدد الكتب التي تضمّها المكتبة، حيث لم يعد بوسعه ليس قراءتها فقط، وإنما حتى رؤية عناوينها.
فقدان البصر قرّبه، كما يقول، من الشعر، ولأن المسودات لم تعد موجودة لديه، كان عليه أن يستعين بالذاكرة، فمن المؤكد أن تذكّر الشعر أسهل من تذكّر النثر، كما أن الشعر المقفى أسهل حفظاً من الشعر الحر، فالأول، برأيه، محمول يمكن للمرء أن يمشي به في الشارع، ويسافر معه في مترو الأنفاق، بينما هو ينظم ويعيد صياغة سوناتا، لذلك فإنه كتب خلال تلك الفترة عشرات من السوناتات، والقصائد الطويلة.
لكن كاتبي سيرته، ودارسي شعره، ومنهم مترجم سيرته إلى العربية عبدالسلام باشا، التي صدرت في العام 2002 عن دار ميريت في القاهرة، أكدّوا أنه رغم استعانته بالذاكرة لحفظ قصائده كان يصرّ على الاحتفاظ بمسودات لما يكتبه، حيث يُنقل عن مسؤولة دار النشر التي كانت تطبع دواوينه، وهي التي كان يملي عليها نصوصه بعد رحيل والدته، قولها إنه بعد الانتهاء من تدوين المسودة الأخيرة لإحدى قصائده الجديدة التي أملاها عليها، أعطته إياها فوضعها بعناية في جيبه.
كان على الناشرة أن تصحبه إلى بيته، وعندما أصبحا في المصعد أخرج الورقة وقال لها: «من فضلك إقرئي لي البيت الخامس»، وبعد أن قرأته سألها: «توجد نقطه في نهاية البيت.. أليس كذلك؟»، ولما ردّت عليه بالإيجاب، علّق قائلاً: «آه.. يالحسن الحظ».
أضافت الناشرة: «وهو يقول ذلك استرعت انتباهي ابتسامته المشرقة بالسعادة».
جريدة الخليج