أعترف بدايةً بأن المهمة التي انتدبني إليها صديقي الدكتور عبدالعزيز السبيّل، الأمين العام لجائزة الملك فيصل، هي إلى كونها تشريفاً لي، واحدةٌ من أحرج المهمات وأشقّها على النفس. ذلك أن علي وأنا أتصدى لإشكالية العلاقة بين الكتّاب والجوائز، أن أكون الوجه والمرآة في وقت واحد من جهة، وأن أجانب ما استطعت الوقوع في شرك الزهو والادعاء وتنزيه الذات، من جهة أخرى. ولعل موضوعاً شائكاً وملتبساً كالذي نحن في صدده لن تتم مقاربته إلا فوق أرض مأهولة بالشكوك، وهو سيظل بالتالي محلاً للتباين والاختلاف والإسقاطات المسبقة. فإذا كانت الحقيقة في جانبها العلمي نسبيةً وحمّالة أوجه، فإن الحقيقة الأدبية أبعدُ من مرمى اليقين من رديفتها الأخرى، لأنها الابنة الشرعية للمعاني المخاتلة التي تظلُّ في جانبٍ منها حبيسة القلوب المكلومة للشعراء والمبدعين.
كلّ جائزةٍ ننالها، هي بالتالي مكافأة المتسلقين إلى الأعلى على الحد الفاصل بين القمم الأكثر ارتفاعاً، وبين المنحدرات المتربصة عند زلات الأقدام. ذلك في الأقل ما تقوله تجربةُ أبينا آدم الذي كوفئ على طاعة خالقه بالفردوس، قبل أن يقع مع حواء في حبائل الغواية، ويدفعا الثمن غالياً بعد ذلك. وإذا كانت الجوائز من بعض وجوهها مكافأةً للممنوح على إنجازه، فقد تكون من وجوه أخرى تصحيحاً لفعل شائن أو خطأ أصلي، تماماً كما كان حال ألفرد نوبل الذي حاول التكفير عن اكتشافه الديناميت بوهْب ثروته كاملة لأولئك الذين وسّعوا مساحة الجمال على الأرض، ورفعوا راية الخيال فوق كل بقعة من بقاعها. مع ذلك، فإن ما فعله نوبل لم يكن وردياً بالكامل. فقد رأى البعض في فعْلته إفساداً للبراءة الضرورية التي يجب أن تحكم العلاقة بين المبدعين ولغاتهم، وإفساداً مماثلاً لمجريات الرهان على الأبدية، حيث يُناط بمحكّمين قلائل أن ينوبوا عن ملايين القراء من مختلف الأجيال والميول، وأن ينوبوا عن الزمن في إصدار فتاوى التكريس وصكوك الخلود. وكان دليلهم على ذلك أن بعض من مُنحوا الجائزة من أمثال بونين وكاردوتشي وأوكن قد آلت أسماؤهم إلى نسيانٍ محقَّق، فيما استطاع بعضُ من لم يُمنحوها، من أمثال تولستوي وكافكا وبروست وبورخيس وكازانتزاكي، أن يرسَخوا عميقاً في وجدان البشر الجمعي، وأن يُلهبوا المخيلات بما يلزمها من حرائق.
من هنا، نفهم قول برنارد شو أن الجائزة تعطي طوق نجاةٍ لمن بلغوا برّ الأمان في الأصل، أو إضافته ساخراً: «إنني أغفر لنوبل اختراعه الديناميت، ولكنني لن أغفر له إنشاءه هذه الجائزة».
لست أريد من هذا التمهيد، أيها الأصدقاء، لأن أقلل من شأن الجوائز المختلفة بشقيها المادي والمعنوي، حيث يخفف الأول من معاناة الكاتب المعيشية، فيما يتكفل الثاني بإشعاره بأنه ليس وحيداً في هذا العالم، وأن هناك من يؤازره ويتابعه بالقراءة ويقدّره حقّ قدره. إضافة إلى أنه ليس من النزاهة في شيء أن أعمد إلى النهي عما قبلته راضياً من جوائز وتكريمات ومكافآت. على أن ذلك لا يحول أبداً دون دعوتي الصادقة إلى المانحين والقيمين على شؤون الجوائز من أجل تجريد مبادراتهم المشكورة من أي دافع كياني وعصبي وسياسي، وعلى اختيار المحكمين وفقاً لشروط الكفاءة والاختصاص، ومن ثم تبديلهم في شكل دوري. إضافة إلى عدم اعتبار السبعين متوسّطاً لأعمار الممنوحين. فالجوائز التي تقدّم إلى الكتّاب المشرفين على الموت هي أشبه بأكاليل الورد التي ترسل إلى غرف العناية، أو توضع على شواهد القبور. ومثَلُها في ذلك مثَل ذلك العاشق المتيّم الذي واجهته حبيبته بالصد زمن شبابه، حتى إذا فاجأته بزيارتها بعد أن أتلفه المرض وتقدَّم به العمر، نظر إلى جلسائه نظرة معبّرة وقال، قبل أن يُسْلم الروح، «أتت وحياضُ الموت بيني وبينها/ وجادت بوصْلٍ حيث لا ينفع الوصلُ». كما أن هذه المقاربة هي حثٌّ للمحكّمين على استبعاد كل ما يقع خارج النص الإبداعي من لواحق العصبية، والهوى الشخصي، والاستنساب المزاجي. وهي حثٌّ أكثر قسوةً للمشتغلين بالكتابة على الاختلاء بدواخلهم بحثاً عن الكنوز الأثمن التي لا يطاولها الصدأ. ولعل في سورة يوسف وصورته ما يجعلنا نؤمن أشدّ الإيمان بأن الجمال ليس معطًى مسبقاً أو هبةً مجانية، بل هو يُستولد نأمةً نأمةً من الآبار العميقة للآلام، وأن الهرب من زليخة الأشكال والزخارف المغوية، هو الشرط الذي لا بد منه لامتلاك زليخة المعنى التي تُفترع في قيعان التجلي، وحمّى الوديان المتصدعة.
كنت أؤثر بالطبع أن أقارب موضوع الجوائز من جوانبه النظرية والمبدئية، لولا أنني لا أملك دفعاً لما اعتليت من أجله هذه المنصة. ويهمني أن أنوه في هذا السياق بأنه من بين الجوائز الكثيرة التي نلتها، تكتسب جائزة الشعر الأولى في الجامعة اللبنانية مطالع السبعينات نكهة ومذاقاً خاصين، لأنها كانت الحدث المفصلي الذي وضعني على الطريق الطويل والشائك للكتابة. فضلاً عن الرصيد المعنوي الإضافي الذي وفّره للشاب اليافع الذي كنته يومذاك، وجودُ محكّمين بارزين من وزن أدونيس وأنسي الحاج ويمنى العيد. ولن تفوتني الإشارة إلى كون تلك الجائزة بالذات هي التي مكنتني بعد لأي من انتزاع اعتراف أبي، وللمرة الأولى، بما أكتبه من قصائد التفعيلة. فهو إذ منحني الاسم تيمّناً بشوقي أمير الشعراء، كان يستمرئ الربط بين الوزن والاتزان، وينفر من الكتابة المعقدة والعصية على فهمه. وكان يردد كلما قرأتُ على مسامعه قصيدة خارجة على أوزان الخليل، قولة الشاعر الجنوبي موسى الزين شرارة «تحدّثني فلم أفهم عليها/ كأنّ حديثَها الشعرُ الحديثُ». على أن الجوائز التي حالفتني فتياً ما لبثت أن أخطأتني إلى ما بعد منتصف الخمسينات من العمر، تاركة لي أن أنجز ما أنجزته من أعمال في ظل الصراع المحض مع اللغة، وفي كنف التفتح الغامض لتلك المادة الليلية المنسية في قلب النهار، وفق ما يقول باشلار. وربما كانت جائزة عكاظ التي تشرفت بنيلها قبل ثماني سنوات عن قصيدتي «مرثية الغبار»، واحدة من أبرز الاختبارات التي أوقفتني على المفترق الفاصل بين النوم على حرير الانتشاء بالنفس، وبين تنكّب المزيد من مشقات الكتابة ومجاهيلها. ولن أنسى ما حييت سؤال أحد الصحافيين لي، وأنا بعد على منصة التكريم «هل تُراك ستكتب شيئاً بعد الآن، أم ستأخذك نشوة الظفر بالعباءة التي ترتديها؟»، ما دفعني إلى إجابته على الفور»ولماذا تخاطبني كما لو أنني أرتدي كفناً لا عباءة»؟
سأكون بالطبع مجافياً الحقيقة إذا ادعيت أمام هذه الصفوة من المثقفين بأن الجوائز الأدبية، بخاصة الأساسية منها، لم تكن ضمن دائرة اهتماماتي، وإلا لما كنت رشحت نفسي لنيلها مراراً وتكراراً. لكنني لن أجافي الحقيقة أيضاً إذا ادعيت أنني في ما أصدرته من أعمال لم آخذها مرة في الحسبان، ولم تُفسد علي حاجتي إلى الاختلاء بنفسي وبما أكتبه من نصوص، بعيداً من أي عامل خارجي. وهي إذ ترافقت زمنياً مع سن الكهولة، لم تحل بيني وبين تطوير علاقتي باللغة والعالم، أو مع نزوعي الجلي إلى التأمل والتقصي المعرفي، الذي بدت أعراضه واضحة في مجموعاتي الشعرية «مدن الآخرين» و «صراخ الأشجار» و «فراشات لابتسامة بوذا» وغيرها. مع ذلك، فقد ظل يلازمني دائماً، وقبل الجوائز وبعدها، شعور مجهول المصدر بأن الشعر الحقيقي ماثلٌ أبداً في الأماكن التي لا سبيل إلى وطئها، وأن ما كتبته ليس سوى نسخة غير منقّحة عما لا أزال أرغب في كتابته. وهو ما قصدته بوضوح في إصداري الأخير «الحياة كما لم تحدث» الذي أعقب بقليل حصولي على الجائزة التي أعتز بنيلها كل الاعتزاز، وأعني بها جائزة سلطان العويس للشعر العربي في دورتها الأخيرة.
ستظل الكتابة، أخيراً، واحدة من الألغاز الكبرى لوجودنا على الأرض. وإذا كان أورهان باموك قد اعتبر أن من يكتبون يفعلون ذلك لأنهم لا يحسنون مزاولة أي نشاط آخر، فإن الكتابة بحد ذاتها هي نوع من الحياة الموازية. لا بل إن الكاتب البرتغالي ساراماغو يرى أن كلّ ما ليس هو الحياة ذاتها هو من فصيلة الأدب. إلا أن مأزق الكتابة الأصعب يتمثل في كون اللغة أوسع مما يجب، وفي كون الحياة في المقابل أقصر مما يجب. ولو كنا نملك حياتين، إحداهما للعيش، والأخرى للتعبير عنه لهان الأمر. ولكن الأمور لسوء الحظ ليست كذلك، ومأزقنا الأصعب هو في كوننا عدّائين بلا خط للنهاية. وهو عين ما عنيته في قصيدتي «إلى أين تأخذني أيها الشعر» بالقول على لسان هذا الأخير «ينبغي في معادلة المحو والامتلاء بأن تخلع النفس كاملةً/ فالكتابة ليست سوى امرأةٍ لا تريد أقلّ من الموت مَهْراً لها/ فاخلع العيش كي تربح الكلمات». وإذا كنت موقناً بأنني قد خسرت العيش أو جلّه في الأقل، فلست على يقين أبداً من أنني ربحت الكلمات. والله أعلم.
جريدة الحياة