«كنت أول رئيس فرنسي يزور الجزائر كبلد مستقر لا كمستعمرة». المتحدث هو فاليري جيسكار ديستان، رئيس جمهورية فرنسا الأسبق. والمناسبة مقابلة تلفزيونية يتوقف فيها عند محطات من سيرته. هو ليس شاهداً على التاريخ بل أحد الذين جلسوا يصنعونه في مكاتب الحكم. مارسوا ما سمّاه ضابط المخابرات الأميركي مايلز كوبلاند: لعبة الأمم. حين مرض بومدين ذهب للعلاج في موسكو رغم أن باريس هي الأقرب. حلقت طائرته عند العودة في أجواء كورسيكا. بعث جيسكار برقية مجاملة لاسلكية إلى الرئيس الجزائري وهو في الجو. وأجاب بومدين برسالة بالغة الدفء ما زالت محفوظة في الأرشيف. «وعد بتوطيد العلاقات بين بلدينا وعاجله الموت».
ارتبط جيسكار بعلاقات مشهودة مع زعماء أفريقيا تعدّت الدبلوماسية إلى الصداقة. كان يذهب للصيد في غاباتها. وفي رصيده ما لا يقل عن خمسين فيلاً. يجلس في «الإليزيه» ويدير المذياع فيسمع أغنية لجيلبير لافاي عنوانها: «الرئيس والفيل». يبتسم ويغلق الراديو. يفتح التلفزيون فيشاهد الكوميدي تييري لو لوران يقلّده ويسخر من حركات شفتيه. لا يغضب بل يكافئه. طاردته بريجيت باردو، الممثلة المدافعة عن الحيوانات. طالبته بقوانين تلجم الصيادين. ثم نشرت في مذكراتها أن جيسكار كان يطاردها. أحبّ النساء مثل كل ملوك فرنسا ورؤسائها. أنشأ أول وزارة لحقوق المرأة ودعم وزيرة الصحة في قانون يلغي تجريم الإجهاض.
في عهده حاولت فرنسا الخروج من ثنائية القطبين والحرب الباردة. جلس جيسكار في وارسو مع بريجينيف خارقاً مقاطعة الزعماء الغربيين لساكن الكريملين. قرّب رأسه منه وهمس في أذنه: «هل تؤمن حقاً بأن العالم كله سيصبح شيوعياً ذات يوم؟». أجاب الزعيم السوفياتي وهو يرفع صوته: «طبعاً». كان الرئيس الفرنسي متحمساً أيضاً لمقابلة الرئيس الأميركي الآتي من شاشات هوليوود. قال له بوب هوب إن ريغان ظلّ ممثلاً فاشلاً حتى لحظة فوزه بالرئاسة. عندها أتقن التمثيل.
انفجرت في وجه جيسكار قضية لم تكن في الحسبان. استيقظ ذات صباح من خريف 1979 على تقرير صحافي يكشف أنه، عندما كان وزيراً للمال، تلقى هدايا ثمينة من الزعيم الأفريقي بوكاسا. ما هي الهدايا؟ فصوص من الألماس احتفظ بها لنفسه ولم يصرّح عنها. وفي ظهيرة اليوم نفسه صدرت «لوموند» بافتتاحية تطالب الرئيس بتوضيح المستور. نفى جيسكار التهمة وقلل من قيمة الهدية. قال إنها حبيبات صغيرة من إنتاج ورشة لتقطيع الأحجار الكريمة. إنهم يقدمون نماذج من عمل الورشة لكبار الضيوف الأجانب. حتى كيسنجر نال هدية مماثلة.
زعزعت الفضيحة كرسيّه وكانت سبباً في خسرانه معركته الانتخابية لولاية ثانية. هزمه خصمه الاشتراكي اللدود ميتران. مات الخصم وعاش جيسكار حتى تعدى التسعين بثلاث سنوات. صحته اليوم معقولة وعقله ذهب ليرة. صدرت له رواية عن أميرة بريطانية متزوجة من ولي للعهد تقع في هوى رئيس فرنسي. هل كان يحلم بديانا؟ يغادر الرجل العجوز فراشه وينزل ليمارس وظيفته في المجلس التشريعي، وفي الأكاديمية الفرنسية. يجلس على المقعد الذي شغر برحيل صديقه ليوبولد سنغور، الشاعر والرئيس السنغالي الأسبق. يضحك ويردد أن سنغور كان فرنسياً مصبوغاً باللون الأسود.
عند انتخاب ماكرون، تطوّع جيسكار لتقديم نصائح للرئيس الذي يصغره بنصف قرن: «حافظ على هدوئك لأن المثل الصيني يقول: إذا هاج الإمبراطور يمرض الشعب». وحين يسأله فريدريك ميتران عن الموت، يجيب بأبيات للشاعر شارل بودلير يحفظها على ظهر قلب. قصيدة غنائية عن خضرة الفراديس وحب الطفولة والكمنجات النابضة والقبلات وراء الهضاب. يتلو الأبيات وتلتمع عيناه، تخنقه العبرة..
جريدة الشرق الاوسط