قلة قليلة أولئك الذين يخلصون لفن أو جنس أدبي بعينه، وينذرون رحيق عيش أعمارهم له، فيعترف بموهبتهم، ويحتضنهم، ويُحلِّق عالياً بأسمائهم، لينثر وينشر إبداعاتهم في كل زاوية من زوايا العالم، ومؤكد أن القاص السوري زكريا تامر هو أحد هؤلاء.
يُنظر إلى زكريا تامر، المولود بدمشق عام 1931، بوصفه أحد مؤسسي فن القصة القصيرة العربية، إلى جانب المصري يوسف إدريس. وإذا كان وصف مؤسس يعني بين أمور كثيرة نتاجا مبدعا يحقق الشروط اللازمة لجنسه الأدبي، بالإضافة إلى كونه تراكمياً ومتنوعاً ومتجدداً، فإن أكثر ما يبدو لافتاً في كتابات تامر ثلاثة أمور:
الأول: إخلاصها لقضايا الإنسان العربي ابن بيئته خاصة، والإنسان أينما كان عامة، والتجرؤ على فضح وإدانة السلطة الدكتاتورية الغاشمة.
الثاني: الكتابة بلغة مكثفة، وأحياناً مكثفة جداً، وبمفردة منحوتة صار يمكن أن يُطلق عليه وصف مفردة زكرياتية.
الثالث: استخدام الخيال/ الفانتازيا لتقديم قصة قصيرة، مكتملة العناصر الفنية، تشير للواقع المعاش من جهة، وتحلِّق بجناحي الخيال من جهة أخرى.
زكريا تامر، صاحب: “صهيل الجواد الأبيض”، و”دمشق الحرائق”، و”النمور في اليوم العاشر”، و”سنضحك”، و”الحصرم”، و”تكسير ركب”، و”ربيع في الرماد” وأعمال أخرى كثيرة، زرته قبل أيام في بيته بمدينة أكسفورد في إنكلترا، وكالعادة أفرحني استقباله الدافئ، الذي يرفل بثوب العافية. وكما في كل لقاءاتنا، بدا زكريا منطلقاً يتحدث بعفوية وعمق لافتين.
دار حديثنا حول أمور كثيرة، وبعيداً عن الهمّ السياسي والإنساني السوريين/العربيين، أسعدني المزيد والمزيد من الترجمات لأعمال زكريا إلى لغات جديدة في مختلف دول العالم، وأطلعني على الترجمات؛ الإيرانية، والتركية والبنغالية والعبرية. وحين استفسرته: العبرية؟!
أجاب باسماً: “ترجموا قصة للأطفال تُظهر قيمة التمرد في حياة الإنسان”.
الجلوس والحديث مع زكريا تامر هو غوص في تاريخ كبير لرجل عرف وعاش لحظة الحياة كأشد ما يكون عمق اللحظة ومذاقها ودلالتها الإنسانية، واستطاع بموهبة قصصية لافتة ترجمة عوالم تلك اللحظة، وتسميرها على مشجب الوقت، لتبقى طازجة ودالة عند قراءتها.
أخبرني بأنه يكتب عملاً قصصياً جديداً، فقلت له:
“لك تكنيك يخصّك صار معروفاً للقارئ العربي، وربما العالمي”.
تأمل للحظة فيما قلت، وردَّ:
“لا، ليس من كاتب يمتلك التكنيك ويحتكره لنفسه، لكن الأمر هو عين خاصة يرى بها، ومفردة ينتقيها وينحتها، وأخيراً زاوية رؤية ينظر من خلالها للحدث الجاري أمامه”.
كنتُ أتابعه باختياره لمفردته، وحرصه على أن تكون دقيقة، وأضاف: “يمكن لكُتّاب كثر أن يشتركوا في التكنيك نفسه، لكن لا يمكن أن يتشابهوا، فكل منهم يكتب من زاويته وخياله ووعيه”.
ولأن الزيارة عائلية، فقد شاركتنا الجلسة السيدة العزيزة نادية، زوجة زكريا، وكذلك زوجتي شروق وابنتي فادية، وأكد لي زكريا استمرار ولعه بأفلام السينما، وكيف أنه يتنقل من فيلم إلى آخر، وأن استخدامه لموقع يوتيوب صار يساعده على اختيار الأفلام التي يحب.
زكريا، وكأي معلم مخلص لصنعته، وما إن علِم بأن ابنتي فادية تخوض تجربة الكتابة، حتى راح يشجعها، ويعرض عليها استعداده لقراءة مخطوط أعمالها، للوقوف على موهبتها، وابتسم وهو يقول لها: “أبوك يعرف، أنا لا أجامل”.
هجم السرور والخوف على فادية، فأي شرف ينتظرها بأن يطلع المعلم زكريا على كتاباتها الأولى، لكن أي كتابة تلك التي ستعجب المعلم وتحوز رضاه؟
زكريا تامر القاص العربي الذي ظل مخلصاً لفن القصة القصيرة العربية، والذي ترجمت أعماله لعدد كبير من اللغات العالمية، ما زال أسيرا لذلك الفن الجميل والمرهق يجالسه صباح مساء، ويحمّله همومه الكثيرة ولحظات سروره العابرة، وما زال يرفد المكتبة العربية والعالمية بقصص مبدعة لا تشبه إلا نفسها!
تحية من القلب لك أيها الصديق المعلم.
جريدة الجريدة