الأعوام العشرة التي مضت على رحيل محمود درويش زادته حضوراً. هذا الشاعر تمكن من ترويض فكرة الموت وتجاوز سلطته الرهيبة. قد تكون القضية الفلسطينية رافداً من روافد هذا الحضور المشرق، لكنّها لم تكن إلا بمثابة الساقية التي تصب في نهر هادر. وكم كان صاحب «سرير الغريبة» يتململ من الألقاب الوطنية التي أطلقت عليه منذ بداياته وظلت ترافقه حتى بعدما تحرر من وطأة الالتزام السياسي والأيديولوجي ليكتب شعرًا هو في مرتبة الشعر الصرف. كان يزعجه أن يُحصر صنيعه الشعري في دائرة المقولة «الرسمية» أي شاعر القضية وشاعر المقاومة والشاعر الرمز… وأمضى ردحاً من حياته يقاوم هذه الصفات ليكون ذاته، شاعراً وشاعراً فقط، ولكن من غير أن يتخلى لحظة عن جذور فلسطين التي هي جذوره وجذور أهله. هو يعلم أن القضية أعطته كثيراً مثلما أعطاها لكنه لم يكن ليحتمل أن تمسي القضية تخوماً مغلقة وخطاً لا يمكن الخروج عنه.
يهيأ إلي أن محمود درويش رحل قبل أوانه. غدر به القدر فطواه في أوج «شبابه» الشعري. ولو ظل على سابق حياته لأبدع المزيد من القصائد الجديدة، المتألقة لغة وغنائية وعمقاً هو عمق الكائن الذي يواجه الموت مواجهة شخصية ووجودية. كان شاباً في السابعة والستين. وكان كلما اصطدم بجدار العمر المهدد أوغل في ربيع القصيدة. لغته العذبة الجارية كماء النهر لم يشبها وهن ولا أصابها خمود، بل ظلت تتوهج وكأنها تسترجع بداياتها ولكن بنضج النهايات التي لم تنته.
يذكر أصدقاء الشاعر كيف أنه كان في الفترة الأخيرة على حماسة شعرية نادرة وعلى قلق لا يعرفه الرواد المكرسون عادة. القضية التي صنعته مثلما صنع أسطورتها تخطته كما تخطاها إلى الأمام الذي لا وجهة سواه .أضحت هي الماضي الملطخ بالدم والأسى، وأمست القصيدة هي المستقبل القادر على احتواء الأرض التي كانت ولم يبق منها سوى ما بقي. كان الشعر كل همه في أيامه الأخيرة وما قبلها. الوجه السياسي فيه كان قد تغضّن وغزته شآبيب اليأس، أما وجهه الشعري فكان أشد نضاره مما من قبل. كان أدرك إدراك اليقين أن «البيت أجمل من الطريق إلى البيت» كما قال مرة. البيت يظل حلماً ببيت قد يصل إليه، حياً أو محمولاً على الأكف، أما الطريق فهي المحفوفة بالأشواك والأخطار. البيت هو الحلم الذي قد يفتح أمامه أبوابه فيما الطريق شأن واقعي، وما أقبح الواقع عندما يغلبه اليأس أو القنوط. لكن محمود درويش وصل إلى البيت الذي بلا شرفة ولا عتبة ولا أبواب، وصل مغمض العينين ولكن ببصيرة لا تخبو وحنين لم تخمد ناره.
كان الشعر هو النهاية التي ارتجاها شاعر «جدارية». السياسة أنهكته والقضية أثقلت ظهره وبات يشعر بحاجة ملحة إلى حريته، الحرية التي تجعله فرداً في جماعة بعدما كان جماعة في فرد. كان الوقت حان ليواجه الشاعر نفسه في مرآة نفسه. مرآة الوطن غزاها الصدأ بعدما سقط الوطن في أسر الواقع الأشد مأسوية من التاريخ. اكتشف الشاعر أن «المنفى هو المنفى، هنا وهناك» وأنه شاعر المنفيين اللذين لا نهاية لهما، اللذين أصبحا قدره وقدر الذين هم هو، إخوة في الوطن وإخوة في اللاوطن، في الشعر والتيه والترحال.
في أمسية له أحياها في مدينة «آرل» الفرنسية قبل نحو شهر من رحيله، أعلن محمود درويش جهاراً انفصاله عن السياسة وانتصار الشعر عليها. إنها هزيمة الواقع أمام سلطة الحلم الذي لم تبق له سلطة في هذا العالم المأسوي. قال كلمته بجرأة وكأنه كان يحدس بأنه سائر إلى موته، موته الذي لم يمهله كي «يعد حقيبته» كما يقول. جاهر بتعبه من عالم السياسة والسياسيين هو الذي كان في صميم القضية، على رغم ابتعاده عنها، ولا يزال، حتى بعد رحيله. البعد هنا قرب كما يقول المتصوفة، والغياب حضور آخر، حضور يحمل لون الغياب. كان يشعر دوماً بأنه أرتقى بالقضية إلى مصاف المجاز جاعلاً من النضال السابق معجزة شعرية تخاطب الجميع، جميع المضطهدين والحالمين والمنتطرين. لم يلتفت محمود درويش إلى الوراء بعدما وضع يده على المحراث، نظر إلى الأمام هو ابن المستقبل الذي عرف كيف يصهر ماضيه في روحه.
في الذكرى العاشرة لرحيله نكتشف أن الموت انتصر على محمود درويش بالجسد وليس بالروح. الروح الأقوى من الموت يعجز الموت عن اختطافها. شاعر في شفافية محمود درويش ورقته، يصعب على الموت أن يسلب قلبه، شاعر في عنفه المقدس وقوته يصعب على الموت أن يسرق حياته. لم يكن قلب الشاعر هو الذي توقف عن الخفق، بل الزمن نفسه الذي طالما تصدى له وجهاً لوجه. لم تكن لحظة الموت غريبة عن شاعر الموت في «جدارية» و «في حضرة الغياب. لقد واجهه بعينين مفتوحتين وقلب متوقد. خبره عن كثب وعاشه بل ماته ثم نهض منه وبه جاعلاً منه قصيدة ولغة وصوراً متدفقة. خاطبه ورثاه راثياً نفسه والعالم، حتى بات عاجزاً أمام سطوة كلمته. لكن الموت يأتي دوماً كالسارق، على غفلة يأتي. ومثلما تنبأ في «جدارية»، لم يمهله الموت كي ينهي حديثاً عابراً مع ما تبقى من حياته، لم يمهله حتى يعدّ حقيبته. أغمض محمود درويش عينيه رغماً عن الحياة التي كانت تصخب في داخله. شاعر الحياة غلبه الموت في ذروة الحياة التي لم تكن وجهاً آخر للموت بل كانت غريمه الأبدي. كان شاعر»سرير الغريبة» يردد:» أريد أن أحيا»، كان فعلاً يريد أن يحيا كشاعر وشاعر فقط، لكن الشاعر الذي لم يحافظ إلا على سلطة الحلم كان أرقّ من رمح الموت الذي اخترق قلبه في أوج شبابه.
في العام 2004 جمع محمود درويش دواوينه الأخيرة حينذاك، وهي لم تكن الأخيرة، في مجلد واحد سماه «الأعمال الجديدة». كان فرحاً جداً بهذه الأعمال ليست لأنها جديدة فقط بل لأنها نشأت في قلب المشهد الشعري الراهن. شاعر مثله كان يكفيه ما حصد من أمجاد وما احتل من مراتب وما عرف من شهرة عربية وعالمية. لكن الشاعر الذي فيه، الشاعر المجبول بالقلق والحلم والرغبة لم يستكن يوماً. لم يغرِ محمود درويش يوماً أن يبلغ ما بلغ من قمم بل ظل يحدق إلى الأبعد، الى ما هو أقصى من الضوضاء والمجد العابر والشهرة الوهمية. كان محمود درويش يعمل بجهد على تجديد نفسه وتحديث لغته وكأنه أحد الشعراء الشباب الذين يتلمسون طريقهم. يقرأ بنهم ويعيش بنهم ويحزن بنهم ويتقدم بنهم كما لو أنه يسابق عدواً لا مرئياً هو الزمن، العدو الذي لا يهادن. واستطاع أن يكون شاعراً مخضرماً بامتياز، بل لعله الوحيد الذي منح «الخضرمة» معنى يتجاوز البعد الزمني، جامعاً بين ماض مشترك وحاضر خاص هو المستقبل نفسه. وكم عرف أن يفيد من قصيدة النثر من غير أن يتخلى عن قصيدته الحرة وعن الإيقاع الداخلي أو العروض الداخلي الذي كان ماهراً في سبكه. كان شاعراً حراً ينتمي إلى جيله من شعراء التفعيلة وشاعراً جديداً ينتمي إلى جيل الشعراء الشباب في آن واحد. هذه الميزة لم يحظ بها إلا قلة قليلة من الشعراء في العالم. ومثلما كان متفرداً بنضاله وشعره النضالي وغنائيته كان أيضاً متفرداً بحداثته التي بدت مختلفة عن «الحداثات» التي عاصرتها أو عاصرها.
كأن محمود درويش رحل أمس. هذا الشعور يخامر قراءه في كل ذكرى تعبر. وفي الذكرى العاشرة لرحيله يبدو أشد قرباً، وهو القرب الذي سيزداد عاماً تلو عام بعدما أصبح الشاعر شعره، ماضياً ومستقبلاً.
جريدة الحياة