يُسعفنا التحقيب في رؤية التطورات والتحولات المختلفة موضوع الدراسة، وينطبق هذا على كل الدراسات، وليس الدراسات التاريخية وحدها، فالتاريخ عبارة عن مراحل وحقب مختلفة، لكل مرحلة أو حقبة سمات خاصة بها، قد تشبه ما سبقها في أمور وتختلف عنها في أمور، وفي بعض الحالات قد تشكل قطيعة معها، حين تبدو تأسيساً لوضع جديد، لا يشبه سابقه.
لكن ليست دراسة التاريخ وحدها ما ينطبق عليها هذا القول، فالتحولات في المجتمع هي الأخرى قابلة، لا بل إنها خاضعة، لمثل هذا التحقيب، الذي بدونه سيبدو المجتمع ساكناً لا يعرف التحولات، مهما صغر شأنها، وهذا محال، فالثابت الوحيد، إن وجد، هو التحول نفسه.
وطبيعي أن الدارس للتحولات الاجتماعية يستعين بأدوات مختلفة لمعرفة ما الذي أدى لهذه التحولات، التي لا تحدث من تلقاء نفسها، وإنما تحت تأثير عوامل أخرى، من خارج الظاهرة نفسها، كالتحولات في بنية الاقتصاد، من اقتصاد قائم على الزراعة والرعي والصيد مثلاً إلى اقتصاد قائم على الصناعة، أو على صناعة المعرفة وما إلى ذلك، كما يمكن أن يلعب تعميم التعليم وتطوره دوراً حاسماً في تحولات الوعي الاجتماعي، ما يؤسس لنقلة المجتمع من مرحلة إلى مرحلة تالية.
الثقافة، والأدب منها بخاصة، مشمولة أيضاً بفكرة التحقيب هذه. لن نستطيع رصد التحولات في بنية الأدب وأشكال التعبير وطبيعة الموضوعات التي تشغل بال من يكتبون الأدب دون أن نستعين بالتحقيب، الذي يتيح لنا أن نقسم تاريخ الأدب إلى مراحل أو حقب.
طبعاً لا يخلو الأمر من تعقيدات، فقد يكون ما يحسبه أحدهم حقبة جديدة لا يعدو كونه استمراراً لما سبقها، حيث لا تحولات نوعية أو جذرية تسمح بالحديث عن «جديد»، حتى لو كان الأمر يتصل بأكثر من جيل، فما أكثر ما يكون الجيل التالي استمراراً رتيباً لما سبقه، وأسيراً له غير قادر على الخروج من «جلبابه».
وقد يحدث العكس تماماً، حيث لا يلتفت الباحث إلى أن ثمة ظواهر جديدة نشأت، تختلف عما سبقها، لكنه، أي الباحث، لا يمتلك ما يكفي من أدوات منهجية تؤهله لرؤيتها ورصدها.
على صلة بهذا شدّتني دراسة «تحقيبية» نموذجية وضعها الباحث المصري عبد الرحمن أبو عوف في كتابه «قراءة في الكتابات الأنثوية» عن تحولات الخطاب الروائي للمرأة المصرية، وفيها تناول تجارب ثلاث أديبات، كل واحدة منهن تمثل جيلاً مختلفاً، هن الدكتورة لطيفة الزيات، وسلوى بكر، وميرال الطحاوي، وربما عدت لهذه الدراسة في حديث لاحق.
جريدة الخليج