لكي نفهم أي بلد أو أي أمة بصورة أفضل وأدقّ يجب أن نقرأ أدبهما. تزداد صحة هذا الافتراض عندما يكون البلد كبيراً، شاسع المساحة، مترامي الأطراف، وعندما يكون للأمة المعنية شأن في التاريخ أو الحاضر.
ونظن أن روسيا من أكثر البلدان التي يصح عليها هذا، ليس فقط لأنها شاسعة المساحة، وليس فقط لأن لها شأناً في التاريخ والحاضر، وإنما أيضاً لغزارة وثراء وعمق أدبها.
أتينا مرةً على ذكر تحفظ مؤلف كتاب «ديستوفسكي – إعادة قراءة»، ي. كارياكين، على الانطباع السائد في الغرب بأن مفتاح الروح الروسية موجود في أدب ديستوفسكي وحده، ومصدر هذا التحفظ آتٍ من سبب بسيط، كما يقول، هو أن شخصاً واحداً حتى لو كان الأكثر موهبة، لا يمكنه أن يكون الممثل الروحي لأمة بأسرها.
لكن مؤلفاً آخر هو نيقولاي برديائف في كتابه «رؤية ديستوفسكي للعالم»، يفرد فصلاً خاصاً في مؤلفه لإظهار مكانة روسيا في أدب ديستوفسكي، ليظهر حقيقة أنه لا يمكن فهم روسيا دون قراءة ديستوفسكي.
يرى المؤلف، أن ديستوفسكي روسي صميم، ولا نستطيع أن نتخيله خارج روسيا، بل إن لغز النفس الروسية يمكن أن نفك رموزه فيه.
تعلّق ديستوفسكي ببلده يبلغ حد التعصب وربما القومية المتطرفة، ورغم أنه قال مديحاً في أوروبا لم يقل مثله غربي، لكنه ظلّ دوماً يرى أن في روسيا سراً وسحراً لن يستطيع الغربيون إدراكهما، جغرافية الأرض الروسية تتطابق مع جغرافية روحها، فالسيول والوديان هناك ليست سوى رموز لما تتسم به النفس الروسية.
ومن هذا الموقف عبّر ديستوفسكي عن مقت لليهود، أخذه عليه برديائف، لكن كان على المؤلف أن يفطن لحقيقة أن ديستوفسكي، كما شكسبير من قبله، استطاع أن يمسك بمفاتيح الشخصية اليهودية ويلج إلى كوامنها، خاصة في وثيقته الموسومة: «المسألة اليهودية» ما جعله مكروهاً من اليهود حتى اليوم.
الباحث المصري أشرف الصباغ لاحظ أن وثيقة ديستوفسكي هذه لم تظهر إلى النور أبداً بعد عام 1895، حتى ظهرت طبعة لها عام 1994، أي إنها حجبت حوالي قرن. ومع أنها كتبت قبل الحربين العالميتين وقبل «الهولوكست» النازي ضد اليهود وقبل احتلال فلسطين وطرد أهلها منها، لكنه قال فيها: «لا يوجد في العالم شعب كاليهود، الذين ما انفكوا يتظلمون من مصيرهم وذلهم وعذاباتهم حتى لا تتصور أنهم هم الذين يسودون في أوروبا وهم الذين يتحكمون في البورصات هناك، الأمر الذي جعلهم يتحكمون في سياسة الدول وشؤونها الداخلية».
جريدة الخليج