بسخرية لاذعة تحملها رسوماته الكاريكاتيرية، أسس الفنان ناجي العلي (1937 1987) مدرسة نضالية مقاومة للاحتلال «الإسرائيلي»، فقد كان مؤمناً بضرورة الثورة ومن أكبر دعاتها، أو كما يقول: «الطريق إلى فلسطين ليست بالبعيدة ولا بالقريبة، إنها بمسافة الثورة».
ناجي العلي واحد من كبار الفنانين الفلسطينيين الذين ناضلوا سياسياً عبر توظيف الفنون، برسومات حملت تكثيفاً وإحالات تفضي إلى ضرورة التغيير، وحملت أحلام الانعتاق من المحتل، حيث إن تلك الرسومات شكلت وعياً كبيراً بضرورة المقاومة وعدم الاستسلام.
كان لرسومات العلي وأعماله الفنية ومقولاته، أثر كبير على الجماهير الشعبية الفلسطينية والعربية، وفي النخب داخل وخارج فلسطين، بل وكان ملهماً حتى للقيادات السياسية في كثير من المواقف بالثبات الكبير على المواقف والحقوق الوطنية، كما أنه حمل، إلى جانب هم شعبه، الهموم والقضايا العربية، حيث كانت رسوماته تعبر عن القضايا العربية ككل، وكان لها تأثيرها السياسي والاجتماعي على المستوى العربي، كما امتد تأثيره إلى كثير من دول العالم فنال شهرة عالمية، كواحد من الفنانين العالميين المميزين على مستوى الكاريكاتير، فقد قدمت رسوماته مشهداً مختصراً للعالم أجمع، عن مدى معاناة الشعب الفلسطيني.
لم تكن أعمال ورسومات ناجي العلي تعبر فقط عن الواقع الحياتي، والبؤس والشقاء اليومي، الذي يمر به الفلسطينيون تحت الاحتلال، بل كذلك حملت تنبؤات رؤيوية للمشهد السياسي الفلسطيني، وحملت نقداً فكرياً كشف كثيراً من الزيف، وثبت وعياً حقيقياً، وضع مسار القضية الفلسطينية منذ النكبة إلى مراحلها المتقدمة بالنضال في السياق الصحيح، وهو سياق المقاومة، حتى صارت رسوماته بمثابة الأمل والأحلام في العودة إلى فلسطين، وبمثابة الإلهام القوي الذي يفجر غضباً وثورة، ولأن العلي كان يستند على خط فكري وفلسفي شكل مزاجه الفني، فقد كانت رسوماته تحمل أطروحة فكرية واضحة أطل بها على المشهد الفلسطيني، وتحمل بين طياتها النقد السياسي الذي يرسخ للمقاومة.
احتشدت أعمال ناجي العلي بالشخصيات الرمزية التي وظفها في إطار فني يعبر عن أفكاره السياسية تارة، ونقده الاجتماعي تارة أخرى، على نحو ذلك المقاوم الفدائي الذي يعتمر الكوفية الفلسطينية وينتعل حذاءً عسكرياً، والذي يرمز إلى أن النضال المسلح هو أحد أساسات استرداد الحقوق، كما يرمز إلى ضرورة الاستيقاظ والانتظام في عمل كبير يعيد الأرض السليبة.
أما حنظلة، فهي شخصية العلي الأشهر والأكثر تأثيراً على الإطلاق، والتي أصبحت بمثابة بصمة حاضرة في كل أعماله، والاسم مشتق من مرارة الواقع ويعبر عن المأساة والتراجيديا الفلسطينية، وكانت بدايات الشخصية في هيئة رجل عجوز واضح الوجه، لكنه أدار ظهره عن العالم، فبدأ في هيئة ولد صغير، ليظل على تلك الهيئة لا تغيره السنون كشاهد يحتفظ بهيئته، ويشير إلى المتغيرات، ويدق ناقوس الخطر في كل لحظة ومنعطف، وفي المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، فهو كما يشير العلي عابر للحدود ويختزن ذاكرة ثقافية ضخمة، يبث منها رسائل الوعي والاستنارة فيشكل موقف الناس كافة والبسطاء، فهذه الشريحة هي التي ينتمي إليها العلي ويعبر عنها فناً وقولاً: «أنا متهم بالانحياز، وتلك تهمةٌ لا أنفيها، أنا منحاز لمن هم تحت. لمن هم ضحايا التكذيب وأطنان التضليلات وصنوف القهر والنهب وأحجار السجون والمعتقلات. أنا منحاز لمن ينامون في مصر بين القبور، ولمن يخرجون من حواري الخرطوم ليمزقوا بأيديهم سلاسلهم. أنا منحاز للذين يقضون في لبنان ليلهم في شحذ السلاح الذي سيستخرجون به شمس الصباح القادم من مخبئها. وأخيراً أنا منحاز لمن يقرأون كتاب الوطن في المخيمات».
ببراعة شديدة وذكاء كبير، وظف العلي شخصية حنظلة في رسوماته، ليأتي ساخراً لاذعاً ويرسم في الوقت ذاته، الابتسامة على الوجوه الكالحة في ظل اليأس والإحباط، فهو الشخصية التي يعبر بها العلي إلى مواقف استشرافية وتنبؤية، إلى جانب التعبير عن الواقع المؤلم، ورصد التناقضات على مستوى الواقع السياسي الفلسطيني والعربي، وعن حنظلة يقول العلي: «ولد حنظلة في العاشرة من عمره، وسيظل دائماً في العاشرة من عمره، ففي تلك السن غادر فلسطين وحين يعود حنظلة إلى فلسطين سيكون بعد في العاشرة ثم يبدأ في الكبر، فقوانين الطبيعة لا تنطبق عليه لأنه استثناء، كما هو فقدان الوطن استثناء»، وأما عن سبب تكتيف يديه فيقول: «كتفته بعد حرب أكتوبر 1973م لأن المنطقة كانت تشهد عملية تطويع وتطبيع شاملة، وهنا كان تكتيف الطفل دلالة على رفضه المشاركة في حلول التسوية الأمريكية في المنطقة، فهو ثائر وليس مطبّعاً».
كان لدى ناجي شخصيات أخرى رئيسية تتكرر في رسومه، مثل شخصية المرأة الفلسطينية «فاطمة» وهي شخصية لا تهادن، رؤياها شديدة الوضوح فيما يتعلق بالقضية وبطريقة حلها، بعكس شخصية زوجها الذي ينكسر أحياناً، في العديد من الكاريكاتيرات يكون رد فاطمة قاطعاً وغاضباً.
استقى ناجي العلي أعماله الفنية من الواقع الفلسطيني، فقد كان من الجيل الذي ولد في النصف الأول من القرن العشرين، والذي كان قدره بالجراح سخياً، فقد كتب عليهم معيشة النكبة بكل تفاصيلها التراجيدية، والتشرد في كل بقاع الأرض، حيث نزح العلي إلى لبنان واستقر في مخيم «عين الحلوة»، وتشكل وعيه السياسي في المخيم والمعتقلات، وفي تلك السنوات اكتشف مقدراته الإبداعية غسان كنفاني، ونشر له أول رسوماته في مجلة «الحرية»، ثم انتقل العلي إلى الكويت، ومارس مهامه النضالية رساماً كاريكاتيرياً وناشراً صحفياً، حيث برزت هناك شخصية حنظلة، ليذهب بعدها إلى لندن ويعيش فيها حتى يوم استشهاده في التاسع والعشرين من أغسطس/ آب عام 1987، حيث أسلم الروح بعد غيبوبة طويلة على إثر طلق ناري أصابه أسفل العين، ليغادر جسده هذه الدنيا، إنما يبقى هو حاضراً في ذاكرة النضال والكفاح ضد أعتى وأشرس الكيانات العسكرية الوحشية التي عرفتها البشرية، وليبقى حنظلة رمزاً أبدياً لكفاح الشعب الفلسطيني حتى تحرير الأراضي كاملة، وعودة الحق لأصحابه، وقد كتب مريد البرغوثي يرثيه: «ناجي العلي.. لم يضق بك إلا العدو، ولم يسر بك إلا مواطن صالح.. ما أحط تلك الرصاصة، وأعلى جبينك. ناجي العلي وردة فلسطين وشوكتها».
جريدة الخليج