هذه قصة حكاها عالم الفضاء الكبير الدكتور فاروق الباز للإعلامي المصري أحمد المسلماني، استمعت إليها من خلال مقطع فيديو مدته لا تتجاوز 7 دقائق، لكن أثره يتجاوز سبع قنابل ذرية. قصة فيها من الألم الكثير، وفيها لأسباب تخلفنا وهجرة العقول والطاقات العربية من الوطن العربي إلى الخارج أفضل تفسير.
يقول الدكتور الباز إنه كان عائداً من الولايات المتحدة الأمريكية إلى مصر عام 1965 متحمساً لخدمة وطنه، بعد أنهى دراسته هناك وحصل على شهادة الدكتوراه في الجيولوجيا. راجع وزارة التعليم العالي فأبلغوه أنه مكلف بتدريس مادة الكيمياء في المعهد العالي بالسويس. يقول الدكتور الباز: قلت لهم إنني أحمل شهادة دكتوراه في الجيولوجيا فكيف أدرس الكيمياء التي هي ليست تخصصي؟! ردوا عليه: ألن تعرف كيف تفتح كتاب الكيمياء وتدرس منه الطلبة؟ قال لهم: إذا كنتم تريدون هذا فلماذا لا تأتون بأي واحد من الشارع؟ وسألهم: من أمر بهذا؟ فأخرجوا له ورقة موقعة من الوزير فيها خمسة أسماء، كان اسمه الثالث بينها، مطلوب منهم أن يذهبوا إلى المعهد العالي بالسويس لتدريس مادة الكيمياء. رد الدكتور الباز بأنه لا يفهم في الكيمياء، وأن تخصصه في الجيولوجيا، وقرر أن يذهب إلى مكتب الوزير ليشرح له الوزير كيف يمكنه أن يدرس الكيمياء وهو يحمل شهادة في الجيولوجيا. سأل عن موعد دوام الوزير، فقيل له من التاسعة صباحاً إلى الساعة الثانية والنصف ظهراً.
ذهب الدكتور الباز في اليوم التالي إلى مكتب الوزير، فنصحه مدير المكتب بإحضار رسالة «واسطة» من أحد معارف الوزير كي يتمكن من مقابلته. رد الدكتور الباز بأنه عائد للتو من أمريكا ولا يعرف أحداً كي يحضر منه رسالة تمكنه من مقابلة الوزير. ظل الدكتور الباز يذهب إلى مكتب الوزير يومياً من الساعة التاسعة صباحاً، وينتظر هناك حتى الساعة الثانية والنصف ظهراً لمدة ثلاثة أشهر دون أن يتمكن من مقابلة الوزير، حتى أصبح موظفو المكتب يعطفون عليه، ويقدمون له الشاي والقهوة والسجائر، كما يقول، بينما مدير المكتب يؤكد له أن الوزير لن يقابله إلا إذا أحضر له «ورقة» من أحد المهمين، فيرد بأنه لا يعرف أحداً.
بعد ثلاثة أشهر من الدوام اليومي في الوزارة، وبينما كان ينتظر لدى مدير مكتب الوزير دخل عليهم الدكتور مصطفى كمال طلبة، وكان يعمل مستشاراً ثقافياً في السفارة المصرية بواشنطن، ويعرف الطلبة النشطين هناك، وكان الدكتور الباز واحداً منهم، فسأله إن كان قد استلم العمل. رد الدكتور الباز بالنفي، فأخذه إلى مكتبه، ونصحه باستلام العمل، وأخبره بأن الوزير «زعلان» لأنه لم يستلم العمل حتى الآن، وطلب منه أن يذهب لاستلام العمل ثم يعود له بعد أسبوع، وسوف يأخذه بيده لمقابلة الوزير. يقول الدكتور الباز: كان لديّ بنت، وزوجتي على وشك الولادة، ومطلوب مني دفع 35 جنيهاً مصاريف ولادة لمستشفى الجمهورية، ولم أكن أعرف كيف أدبّرها لأنني لا أعمل ودخلي صفر. لذلك قررت أن أذهب لاستلام العمل، ثم أعود للدكتور مصطفى طلبة لأقابل الوزير.
خرج الدكتور الباز من مكتب الدكتور مصطفى طلبة إلى السويس، وفي الدور الثاني من المعهد العالي استلم العمل، وبينما هو نازل على السُّلّم قابل زميلاً كان يعمل معه معيداً في الفيزياء بجامعة أسيوط، عندما كان هو يعمل بها معيداً في الجيولوجيا. سأله زميله: ما الذي أتى بك من القاهرة؟ فأخبره بأن الدكتور مصطفى كمال طلبة نصحه باستلام العمل والعودة إليه، ووعده بأن يقابل الوزير بعد استلام العمل. قال له زميله: آآآه.. تقع في الفخ يا بطل! سأل الدكتور الباز: أي فخ؟ رد عليه زميله: «طالما أنك لم تستلم العمل، فليس لهم عندك حاجة. يوم ما تستلم العمل هيجيبوك هنا بالبوليس زي ما كانوا بيجيبوني الساعة ستة الصبح، يخبّطوا ع الباب ويصحو أمي. أمي كانت بترتعب، لأن أنا استلمت العمل». وأخبره بأنه على الرغم من أنه يحمل شهادة الدكتوراه في الفيزياء النووية من روسيا، إلا أنهم أرسلوه إلى المعهد ليدرس مادة «الصوت والضوء» التي هي من مباديء الفيزياء، وكان منهاراً ومحطماً بعد سنتين من تدريس «الصوت والضوء».
بعد أن سمع الدكتور الباز قصة زميله عاد إلى الموظف الذي استلم منه العمل وطلب منه الورق، ثم قال له: «السلام عليكم.. انته لا شفتني ولا أنا شفتك». عاد الدكتور الباز إلى القاهرة، وذهب مباشرة إلى الدكتور مصطفى كمال طلبة، ودخل عليه دون استئذان. سأله الدكتور طلبة إن كان قد استلم العمل، فقال له إنه لم يأت ليتحدث عن حالته، وإنما عن حالة زميله دكتور الفيزياء الذي طلب منه قبل سنتين استلام العمل والعودة إليه لنقله إلى مكان آخر، وروى له ما قاله زميله. حاول الدكتور طلبة أن يشرح له أن حالته مختلفة، فقال له إنه لا يتكلم عن حالته، وإنما عن حالة زميله الذي أصبح إنساناً محطماً، فإما أن يحل له هذه المشكلة، وإلا فلن يُكِنّ له ذرة من الاحترام في حياته، ثم خرج من مكتبه. سأل أحمد المسلماني الدكتور الباز إذا كان الدكتور طلبة قد حل مشكلة زميله، فأجابه: لا.. مات الرجل بعد سنتين بالسكتة القلبية، وكان في الثامنة والعشرين من عمره تقريباً.
وبعد هذا نسأل لماذا تخلفنا!
جريدة البيان