كان جيل أمين نخلة جيل الكبار الذين عاشوا في مرحلة واحدة كانت أخصب مراحل الإنتاج الأدبي الكلاسيكي في العالم العربي. ولم يكونوا منعزلين في أبراج عاجية، بل يسهل على أي منا مجالسة أي منهم إذا ما ذهب إلى مقهى على ساحة البرج، وقد ظلَّ في ذهني أن قصيدة «الوصية» التي نسبها الأمين إلى أحمد شوقي، عملٌ مزورٌ لا يليق به، مهما كانت القصيدة نفسها متقنة، والحادثة طريفة، ولم يخطر في بالي يوماً أنني سوف أقع على سر تلك القصيدة، بمحض المصادفة ومن دون أي جهدٍ على الإطلاق. فعندما قرأت مؤخراً مذكرات حسين أحمد شوقي عن والده، أذهلني أن أمير الشعراء لم يكن يطيق حتى أن يرثه أحد أبنائه. بل كان يتضايق إذا حاول أحدهم أن يجرِّب كتابة الشعر، فسرعان ما يصرفه عن ذلك ساخراً من جودة القصيدة.
ويروي حسين أنه كان ذات مرة برفقة والده والشاعر حافظ إبراهيم، عندما سأله حافظ إن كان يقرض الشعر مثل أبيه. ثم التفت إلى الأب قائلاً «عليك أن تتعهده ليصير شاعراً مطبوعاً، فأجاب أبي: إني أفضل أن يعتني بالنثر لا بالنظم، لأن الشعر لا يتحمل الوسط، وحسين لا يبلغ فيه القمة… فقال حافظ بيك موجهاً إلي الخطاب: لا تطع مشورة أبيك يا حسين، إنه يقول ذلك لأنه غيران منك، إذ يخشى أن تسبقه في يومٍ من الأيام! فقال أبي في مرارة، لماذا بربك تريد منه أن يكون المسكين شاعراً؟ لماذا؟ أليشقى مثلنا ويحرق أعصابه؟».
يرسم حسين شوقي لأبيه صورة مبالغة في الأنانية. فقد كان يغار حتى من محمد عبد الوهاب الذي تبناه وكتب من أجله بالعامية لكي يغني له. فهل يمكن لمثل هذا الرجل، أن يوصي بالإمارة إلى شاعرٍ من لبنان لم تكن تربطه به تلك المودة الخاصة؟ ثمة قصيدة يائية، عندما نقرأها ندرك كيف «استعارها» الأمين من أجل أن ينصّب نفسه وريثاً وولياً للعهد، وإذا ما قارنا بين هذه اليائية وياء «الوصية»، تبيّن لنا أن الأمين كان ماهراً في النقل، مفضوحاً في الأصل. إلى جنابكم أبيات شوقي: «رزقت صاحب عهده/ وتم لي النسل بعدي/ إن يحسدوني عليه/ ويغبطوني بسعدي/ ولا أراني ونجلي/ سنلتقي عند مجد/ وسوف يعلم بيتي/ أني أنا النسل وحدي/ فيا (علي) لا تلمني/ فما احتقارك قصدي/ وأنت مني كروحي/ وأنت من أنت قصدي/ فإن أساءك قولي/ كذِّب أباك بوعد».
جريدة الشرق الاوسط