لقيام ضباط، تتزين أكتافهم بنجوم يحرسها نسور، باقتحام منزل، يلزم التسلح بخبراء المفرقعات وجنود يضحى بهم إذا فاجأهم مسلحون. ويحدث أن يتمكن من دخول المكان نفسه لص غير مسلح إلا بالحيلة والذكاء. لا فرق بين الضباط واللص إلا الاطمئنان والقلق، ثنائية يمكن أن تنتقل إلى المجال الإبداعي والبحثي، مع الاعتذار عن تشبيه قد يسيء إلى كبرياء محترفين أكاديميين مسّتهم طائف من الإبداع لا يصمد كثيرا بعد موتهم.
لثنائية الموت والبقاء علاقة بمحترفي الإبداع والهواة. ومنذ زمن، قرأت ما كتبه فاروق عبدالقادر عن مسرحيات كتبها أكاديميون من تلاميذ الأكاديمي رشاد رشدي المقرب من أنور السادات، كتابة مثيرة للشفقة، عمدية مفتعلة منزوعة الروح، منتزعة من برودة القواميس، إنه «مسرح زائف» يكتبه «الفرسان الصاعدون إلى الخشبة المنهارة».
ومنذ عقود لا يكاد الجمهور يذكر رشاد رشدي، غابت نصوصه بموته، ولا يعنى باستعادته مسرحيون يتحمسون لتقديم معالجات جديدة لمسرح صلاح عبدالصبور وسعدالله ونوس ونجيب سرور ومحمود دياب وغيرهم. وكانت بضع مسرحيات لرشدي «تقدم على المسرح فور كتابتها، ما يكاد ينتهي عرض واحدة حتى يبدأ عرض الأخرى»، كما قال عبدالقادر في كتابه «في المسرح المصري تجريب وتخريب». في ذلك الوقت استدفأ عموم اليمين، وليس الديني وحده، بحضن السادات، وكان الزمن ينتظر مرور تلك المرحلة؛ لكي يعيد ترتيب الأوراق، ويصطفي ما يستحق البقاء.
إحاطة الأكاديمي بقواعد كتابة المسرح والشعر، وتمكّنه من امتلاك الأدوات، لا تثمر إبداعا، ما لم تسعفه موهبة فطرية، والموهبة هبة إلهية، قسمة لا تكتسب بالتعلم وهو عدة الناقد وأدواته، تفيده وأحيانا تقيّده حتى في مجال الدراسات. لم يدّع محمد حسنين هيكل أنه مؤرخ، واعتز بلقب «جورنالجي».
ولم يقل طارق البشري إنه مؤرخ، ودراساته تلهم المحترفين، ومنها «الحركة السياسية في مصر 1945ـ1952»، و«المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية»، و«الديمقراطية ونظام 23 يوليو.. 1952-1970». ولم يزعم صلاح عيسى أنه مؤرخ، وتكفي أعماله لكي تحمله إلى مقعد المؤرخ الفنان. كما لم ينشغل تشرشل بتوصيف مكانه وهو يكتب «حرب النهر»، عن الثورة المهدية واحتلال بريطانيا للسودان.
لا تتوقع أن يهتم المحترفون باجتهادات «هواة» لا يقيد خيالهم الطليق صرامة المنهج، يتجاهلونهم حسدا من عند أنفسهم. ولا ينتظر العاشقون جزاء ولا اعترافا، يكفيهم اتباع أشواقهم للمعرفة، فيواصل الشاعر زكريا محمد تقصي جذور الأمثال في الجاهلية، وفك رموز تخطيطات وحروف ورسوم حفظتها الحجارة، للتوصل إلى منابع الأساطير والقصص الديني.
في أغسطس 2015 نشر الشاعر أسامة عفيفي في مجلة «الهلال» دراسة عنوانها «فؤاد أفندي عبدالملك أيقونة الثقافة الوطنية»، عن عبدالملك (1878ـ1955) وأدواره الرائدة في حركة الفن التشكيلي، إذ أنشأ عام 1919 «دار الفنون والصنائع» أول مؤسسة وطنية للفنون بمصر، واقترح عام 1921 إنشاء أول جمعية أهلية للفنون، وهي الجمعية المصرية للفنون الجميلة التي أقامت عام 1921 صالون القاهرة الأول بدار الفنون والصنائع، وأسس متحف الشمع عام 1934.
وفي سبتمبر 2015، نشرت الكاتبة شذى يحيى دراسة غير مسبوقة عنوانها «الاستشراق عبر بوابة الرقص الشرقي» عن الهوس بالرقص الشرقي في معرض باريس 1889، وكيف انتقل إلى أميركا قبل معرض إكسبو شيكاغو 1893، وجلب راقصات من مصر ولبنان لتقديم عرض «شوارع القاهرة»، وقلدتهن راقصات أميركيات فصارت كاثرين ديفين تسمى عائشة وهبي، وقدمت رقصة «مصر الصغيرة».
كنت رئيسا للتحرير، واكتشفت مفاجأة المتخصصين في التاريخ والفنون بما كان يجب أن يتوصلوا إليه، لو منحهم الله قلقا إيجابيا يختلف عن قلق بدأت به المقال، لذا لزم التنويه.
صحيفة العرب