لم تظلم مصر شخصا أكثر من ظلمها للشاعر الكبير صلاح عبدالصبور، الرجل الذى عاش أقل من ٥٥ عاما فأحدث مع آخرين أكبر انعطافة فى تاريخ الشعر العربى ومع أنه حصل على أرفع المناصب الرسمية إلا أنه دفع الثمن كاملا بحيث أصابته بعد موته لعنة النسيان الرسمى أيضا مع سبق الإصرار والترصد.
وكما لاحظت ابنته الفنانة معتزة فقد اختصرت سيرته كلها فى المفارقات المؤسفة لليلة الوفاة التى كانت ليلة العشاء الأخير ومات بعدها كمدا مثل أبطال التراجيديا اليونانية الكبار وهى المفارقة التى يؤكدها حراس فيس بوك بينما يتفادون شعره الذى يحتاج لأكثر من بصيرة.
صحيح أن صاحب (أحلام الفارس القديم)؛ كان محظوظا فى جانب آخر يتعلق بمن درسوا أعماله وكانوا كلهم من الدارسين البارزين أمثال الدكاترة عز الدين إسماعيل وجابر عصفور ومحمد بدوى وأحمد مجاهد ووليد منير وآخرين إلا أن هذا لا يعنى أنه نال ما يستحق، فلا تزال رسائله بحاجة لمن يحققها كما لا تزال نصوصه بحاجة لقراءات أكثر من تلك المناسبات التى تعد على عجل، فأغلب الدول المجاورة تبحث عمن تكرمه من رموزها بينما نتسابق نحن على إهمال رموزنا وحصارهم فى المقابر التى تظل وحدها عنوانا للخلود.
ظلم عبدالصبور لأنك لن تجد فى مصر شارعا يحمل اسمه فى المدن القديمة أو الجديدة التى تحمل شوارعها اسماء من نوعية الشاعر الشاب الظريف ولن تجد إذا بحثت ميدان صغير فى حى هادئ يتوسطه تمثال يشيع صورة الشاعر الراحل امام الناس ويثير لدى الاجيال الجديدة فضولا لقراءته وهو الغزير المتنوع الذى اجاد الكتابة فى مجالات ابداعية كثيرة وإذا كان الراحل سمير سرحان قد فعل خيرا حين اسند للاستاذ أحمد صليحة مهمة جمع انتاج صلاح عبدالصبور الأدبى فى مجموعة مجلدات بالغة القيمة إلا أننا لم نخلق لهذه المجلدات السياق الذى يجعلها فى قلب النقاش وفيها الكثير من المعارك الفكرية التى تستحق العودة اليها من جديد. فقد ساجل طوال حياته القصيرة نجوما وقامات مثل العقاد وطه حسين ونازك الملائكة وبدر شاكر السياب ناهيك عن مئات المقالات التى كتبها فى مناسبات لم تبرد نارها إلى الآن.
وبعد سنوات من موته من الصعب مثلا أن تعثر فى المناهج الدراسية على نص واحد يقدمه للشباب وإن حدث ذلك فسيكون نصا من نصوص المناسبات التى تنتهى صلاحيتها بانتهاء المناسبة فى حين يترك واضعو المناهج نصوصه التى تكشف عن جماليات شعره أو نضارة أفكاره ولا أحسب أن هناك نصا عن العلاقة مع الشعر فى تراثنا العربى العربى القريب اجمل من كتابه «حياتى فى الشعر» الذى يستحق أن يقرأ مئات المرات كما تستحق سيرته (على مشارف الخمسين) أن تكون كتابا قرب راحة اليد يمكن للجميع مطالعته والنظر لما فيه من جمال باذخ وقلق يصعب الإفلات من غوايته.
ومن اللافت للنظر أن الظلم الذى تعرض له صلاح عبدالصبور لم يقتصر على مصر بل تم تعميمه عربيا حتى أنه لا يكاد يذكر فى أى مناسبة تكريمية تقوم هنا أو هناك وأذكر أننى قبل ثلاثة أعوام سألت الشاعر السورى الكبير ادونيس عن الشاعر الذى يتمنى أن يعيد قراءته فرد بالفم المليان أتمنى أن أعيد قراءة صلاح عبدالصبور لإنصافه فهو أكثر شاعر ظلمناه.