التفرّغ الثقافي والأدبي والإبداعي حلم لجميع موظفي الدولة “المعتّرين” الذين لا يملكون -بسبب مشاق الحياة- الوقت للالتفات إلى مشاريعهم الأدبية المحتاجة إلى الانعزال والتأمل والتفرغ الكامل؛ فهم بين الركض الدائم في سبيل توفير لقمة العيش وحياة كريمة لأهاليهم وأولادهم وبين حلم ثقافي أدبي يمتلكون مفاتحه وأبجدياته وتصورات عامة له، لكنهم لا يجدون الوقت ولا المال للبدء في خطوتهم الأولى تجاه تحقيق أحلامهم.
يمكن اعتبار هذا المطلب الثقافي بادرة مهمة من وزارة الثقافة السعودية غير أنها مثلها مثل غيرها من المبادرات والمشاريع الجيدة التي ستحتاج -إن أقرّت- إلى الكثير من المقدمات النسقية والسياقية، وللكثير أيضا من الضوابط الصارمة والواضحة حتى لا تؤثر عليها شللية المثقفين التي يخشى أن تحوّلها من استحقاق مفروض على الأديب إلى ديوانية علاقات عامة، تحت وصاية رسمية، قد تحوّل المبدع إلى موظف حكومي مهذّب، يكتب حسب الطلب.
لو رجعنا قليلا إلى سنوات ماضية، تحديدا إبّان محاولة وزارة الثقافة والإعلام (قبل الفصل بينهما) إقرار لائحة تنظيمية للأندية الأدبية كان هدفها إتاحة انتخابات حرة تعزز حق اختيار المثقفين المنتمين إلى الأندية في إدارة شؤونهم الثقافية بأنفسهم. ما الذي حصل؟ بدأ كل نادٍ أدبي بتشكيل اشتراطاته الخاصة من أجل تقنين العضوية بناء على حنكته في المرور من بين ثغرات اللائحة التي ستمكّن المراوغين منهم أن يُدخل أو يُخرج من يشاء ضمانا لكسب أصواتهم في أي استحقاق انتخابي.
لا يزال المثقفون يتذكرون المعارك الثقافية التي كانت تتعالى آنذاك في الملاحق الثقافية بالصحف المحلية، بين فريق مؤيد للانتخابات -رغم كل السلبيات-، وفريق معارض -خوفا من التكتلات التي ستجعل من عناصر التيار الأدبي المحافظ مدراء للأندية-، الأمر الذي عدّه البعض خسارة لمكتسبات ثقافية هي قليلة في الأصل، لاسيما وأن الوضع الثقافي في تلك المرحلة كان يشكّل حاملة ثقافية لتمرير المشروع الصحوي بين أروقة الأندية الأدبية والمؤسسات التعليمية والثقافية، وجميع أجهزة الدولة.
وقد قدمت الانتخابات بالفعل بعض رجالات الدين من المحسوبين على تيار الصحوة إلى واجهة الأندية الأدبية والثقافية دون أن تكون لهم دراية لا بالأدب ولا بالثقافة، فقد أتوا إلى وظيفة محددة تتمثل في سدّ الفراغ الثقافي، وفي عدم تمكين التيار الحداثي في السعودية من الفوز في الانتخابات. والمفارقة أنه بالإضافة إلى هذا الأمر فقد أثبتت الانتخابات مقدار احترافية وتنظيم التيار الديني، ومدى قدرته على التلون لأخذ ما يريده بأدوات النظام والقانون التي وضعها الحداثيون أنفسهم ثم انقلب عليهم.
وزارة الثقافة السعودية قدمت مبادرة التفرغ الثقافي، والابتعاث الثقافي، وإقامة الفنان، بالإضافة إلى أربع وعشرين مبادرة أخرى
إذن، ما الذي يجعل مبادرات وزارة الثقافة مختلفة الآن؟ وما الذي يجعل المثقف السعودي لا يخشى عليها من السرقة؟ وهل المتغيرات والتحولات السعودية ضمن رؤية 2030 ستكون مسوغا لاختلاف نظرتنا إلى الواقع الثقافي؟ وهل الرؤية -وهي لا تزال في بداية تشكّلها- والموقف الرسمي السعودي سيكون رادعا لانبعاث الصحويين من جديد؟ وهل الموظفون الإداريون في الوزارة يعون المتغيرات ويفهمون طبيعة المرحلة؟ أم إنهم مجرد موظفين، لا ناقة لهم في الأمر ولا بعير؟!
من الواضح أن الخلفية والخبرة الثقافية والميدانية التي تتكئ عليها الوزارة وموظفوها ليست مهيّأة -حتى الآن- لحجم المبادرات، فمعظمهم ينحدرون من سلك إداري وليس ثقافيا، وإن أقرّت هذه المبادرات -وهذا ما لا أتمناه حاليا على الأقل- فسوف تحوّل اشتراطاتُها كتابَنا وشعراءَنا وروائيينا وفنانينا إلى مبدعين مهذّبين، يمشون بجانب الحائط. والمبدع -كما هو مأمول منه- لا يمكن أن يكون كذلك.
على كل حال، ما كان حلما بالأمس أصبح اليوم مبادرة من مبادرات وزارة الثقافة، التي دشّنت في أواخر مارس الماضي، فقد عملت الوزارة بالأخذ بتوصيات نخبة من المثقفين السعوديين الذين سبق وأن اجتمعوا مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، من أجل الاستماع إلى رؤاهم وأفكارهم التي تحوّل معظمها إلى مبادرات على طاولة الوزير. ومن بين هذه المبادرات تأتي مبادرة التفرغ الثقافي، والابتعاث الثقافي، وإقامة الفنان، بالإضافة إلى أربع وعشرين مبادرة أخرى.
ومن خلال توقفي ومتابعاتي مع مجموعة من صناع الثقافة السعودية، يمكنني التأكيد على أنه لا أحد يدري -حتى الآن- ما هي الآلية التي ستتبناها الوزارة للشروع في مبادراتها، لكن الأكيد أن المناطق التي تشتغل عليها الوزارة حاليا هي مناطق -مع الأسف- منخورة بالشللية وبالمحسوبيات وبالعلاقات العامة التي ستجعل -بقدرة قادر- من السطحي مثقفا متفرغا، أو فنانا مقيما، أو مبتعثا ثقافيا. فالأمر ما زال يخضع لمنطق “احملني وأحملك، وشيلني وأشيلك، واخدمني وأخدمك”.
من الجيد الالتفات إلى أنه على الوزارة قبل إقرار هذه المبادرات المهمة أن تهيئ الفضاء الثقافي والفكري للتحليق الحر دونَ أن تمنّ على المبدع بالتفرّغ المشروط بغنائه داخل السرب.
ولعل ما يطمئن في هذه المرحلة هو قرار تسلّم وزارة الثقافة للأندية الأدبية والجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون، بالإضافة إلى جمعيات ثقافية أخرى، من وزارة الإعلام. هذا القرار الاستباقي يأتي متناغما مع وضع الآليات المناسبة لإقرار المبادرات، حيث لا يجب أن تبدأ أي مبادرة قبل أن تتشكّل المراكز الثقافية المستقلة والمشرفة على تفاصيلها.
صحيفة العرب