ما هي أكبر نقطة ضعف مزمنة في ثقافتنا؟ سيقفز صائح: ما هذا السؤال البعوضيّ المزعج، فالأدمغة صائمة عن التفكير؟ ثم إنك لو طرحته على مليون عربيّ، لم تجد له جوابين يتفقان على رأي، كعادة العرب دائماً.
هل هذا أوّل الخيط: الفرديّة؟ لكن الفرديّة في حدّ ذاتها نتيجة تربية صارت بمرور الزمن ثقافة طبعت مجالات الحياة كافّة. التنقيب عن الجذور يعود بنا إلى أساس الثقافة العربية: الشعر الجاهليّ، الذي ظل مسيطراً يوجّه الشعراء بالريموت إلى عصرنا الحديث شكلاً، ومضموناً أحياناً.
الشكل ليس أساس المعضلة إطلاقاً، بل إن الثراء الإيقاعيّ في الشعر الجاهليّ كان كنوزاً إبداعيّة موسيقيّة لا نظير لها في الأشكال الشعرية لدى الأمم الأخرى. لقد كانت أشبه بدستور خضعت له قرون الشعر حتى القرن الماضي، مع منوّعات جزئية في الموشحات والمسمّطات وما إليها، جاءت كصيحات تجديديّة في الموسيقى، ولم تكن تيّارات تطويريّة في البنية الشعريّة، فالأوْلى بحثها ضمن تحوّلات أشكال الغناء، حتى وإن ارتقى بعضها إلى مستوى التحليل في نطاق المسيرة التي قطعها نموّ أشكال الشعر.
محي الدين ابن عربي كتب الكثير من الموشحات الصوفية، ولم تكن غايته استخدامها في الأغراض الغنائية على الأرجح.
جوهر الموضوع أن القاعدة الثقافية قامت على تخزين الأفكار في الموزون المقفى، ما جعل البلاغة تسود وتقود الثقافة والفكر. هنا يجب احترام الناقد الفيلسوف رولان بارت في تحذيره من خطر البلاغة، لأنها تشكل مستحضرات تجميل لحقيقة الفكرة، و«ميكاب» للصورة.
تأمّل ما وراء عبارة قدمائنا: «المحسّنات البديعيّة»، معناها «مكياج الأفكار». في النماذج السياسية الصارخة الفاقعة، يتقنّع الغزو بالتحرير، والاحتلال بنشر الديمقراطية.يجب النظر أيضاً إلى سلبيات البلاغة حين نصرف الذهن عن رؤية حقيقة المشهد. الخطر هو تدريب أداء الدماغ وتنشئته على الانخداع بالظاهر وعدم تحكيم العقل الناقد. عندئذ تنطبق: «أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير» (البقرة 61). الباء في الاستبدال للمتروك.
حين نجمع المحسّنات البديعيّة ونضيف إليها المنظومة الموسيقية الكامنة في إيقاع الوزن وتناغم الكلمات ولازمة القافية، نرى الفكرة، التي يجب أن يختبرها العقل ويحلل مقاصدها وغاياتها، قد تحوّلت إلى حسناء ترفل في الحلل والحلي، مستحضراتها مشعة، وترقص «كمان».
هذا لا ينطبق على الشعر المحض، وهو قليل قياساً على مخازن الأفكار، التي توصف غالباً بالحكمة، وهي ليست دائماً كذلك عند الفحص الدقيق.
لزوم ما يلزم: النتيجة اللغويّة: المحسّنات البديعية ليست دائماً حسنات إبداعية.
جريدة الخليج