ولا يفوت المطلع على تاريخ المملكة العربية السعودية القديم والحديث وجود الغناء والموسيقى بين ثنايا نصوص كتب التراث أو كتب الرحالة والنقوش الحجرية، فقد كان الغناء جزءاً هاماً في التكوين الحضاري لإنسان الجزيرة العربية، منذ أن وُجد على أرضها وحتى الآن؛ جسدها في أشعاره ونثرياته ورسمها على صخور بلاده.
وقد وقعت عيناي على أولى النوتات الموسيقية في السعودية التي تم تدوينها بيد الرحالة الغربي جون لويس بوركهارت (John Lewis Burckhardt) عندما زار منطقة الحجاز عام 1814م، أي قبل 204 سنوات. فجاء في كتابه «ترحال في جزيرة العرب» (Travel in Arabia)، والمطبوع سنة 1829م، في صفحة 82 ما معناه: «تجلس النساء في المساء، وفي مكان يبعد مسافة قصيرة عن الخيام ويكون إلى الخلف منها، ويقسمن أنفسهن إلى جوقات، وعدد الجوقة الواحدة ست نساء، أو ثمان، أو عشر، وتبدأ جماعة من هذه الجماعات في ترديد الأغنية، وتروح الأخريات تردد بعدها. وهذا النوع من الغناء يطلق عليه (البنات يلعبن السمر)».
وسوف ننتظر 66 عاماً حين زارت الرحالة والرسامة والمستكشفة الإنجليزية الليدي آن بْلَنْت (Lady Ann Blunt) السعودية في عام 1875م، بهدف البحث عن الخيل العربي، ووضعت كتاباً سمته «الحج إلى نجد – موطن العرق العربي» A Pilgrimage to Nejd) the cradle Of the Arab race)، وقد وصفت فيه مشاهداتها القيمة عن أحوال الجزيرة العربية حيئذ، عن الإنسان وعاداته وطبيعة ثقافته وعن قيمة فنه.
ومن ضمن ما خطته نوتات موسيقية تُعد من أقدم النوتات عن الفن الغنائي والموسيقي في المملكة العربية السعودية: «في المساء سمرنا معهم على الرقص والغناء، الذي شارك فيه دواس والجنود (….) وراحوا يغنون لحناً مهيباً ويرقصون رقصاً مهيباً أيضاً… ثم يحدث هتاف ابتهاج مرة أو مرتين، بنغمة واحدة وبتركيز واحد. كانت الألحان في معظمها من النغمات الواضحة في موسيقى الجزيرة العربية».
ثم لا نلبث غير 9 أعوام، أي عام 1884م، حتى يطل على الجزيرة العربية الرسام المستكشف الرحالة الألماني يوليوس أوتنغ (Julius Euting)، وكان باحثاً عن الآثار والنقوش، والتقى مع زميله الآخر الرحالة شارل أوغست هوبر Charles Auguste) Huber). وضع أوتنغ كتابه في جزأين عبأه بتفاصيل مدهشة عن قصة حياة الإنسان في جزيرة العرب سماه «رحلة إلى داخل جزيرة العرب»Tagbuch einer Reise in Inner – Arabien.
وقد وصف بدقة متناهية كيف كان الرقص والغناء في السعودية قبل 134 سنة عند رؤيته رقصة في منطقة نجد، عبارة عن صف من الفتيات مقابل صف من الفتيان، وبينهما فتاتان مكشوفتا الرأس تتمايلان في وصف يندر أن نجده في أي سِفرٍ كان: «عندما كانت الشمس تميل إلى الغروب شاهدنا رقصة متميزة لم تتح لي الفرصة لمشاهدتها مرة ثانية في كامل الرحلة. في السهل في ساحة واسعة حيث تشكل أسوار الحدائق زاوية منفرجة، كانت تقدم رقصة غريبة عجيبة. على مسافة عشرين خطوة من بعضهما كان هناك صفَّان يقفان في مواجهة بعضهما البعض، على الجهة الأولى نحو اثنتي عشرة فتاة، وفي الأخرى عدد متماثل من الشباب. وفي الوسط بين الصفين كانت ترقص فتاتان مكشوفتان الرأس وشعرهما مسرح نحو الخلف، وهما تنظران بأدب إلى الأرض. وبخطوات قصيرة راقصة وبذراعين مفتوحتين كانتا تتقاربان وتتباعدان. وفجأة أدارت كل منهما ظهريها للأخرى، وألقت رأسها بإيقاع إلى الخلف، بحيث إن الشعر الطويل لكل منهما صار يتأرجح قبالة شعر الأخرى. بينما كان الشباب المقابلون لهن يقفون متراصين كتفاً بكتف يغرزون سيوفهم أمامهم ويحركون أجسامهم جيئة وذهاباً وهم يغنون لحناً متسارعاً».
ولعل هذا الوصف وهذه النوتات (المنشورة صورها هنا) تكون محرضاً لوزارة الثقافة الجديدة في المملكة العربية السعودية في محاولة فك هذه النوتات القديمة ودراستها، ومن ثم إعادة توزيعها موسيقياً، وفق الأنغام نفسها وكذلك وفق الرقصات نفسها بين شباب الوطن، الذي بعُد حيناً من الدهر عن إرثه الموسيقي واللحني، فهل سنرى قريباً إعادة إحياء ما دوَّنه الرحالة، خصوصاً آن بلنت وكذلك يوليوس أوتينغ، ونشاهده على خشبة مسارحنا في القريب العاجل؟
فنحن ندرك أن تاريخ الجزيرة العربية والسعودية بشكلٍ خاص لم ينقطع منها يوماً فن الغناء والرقص منذ بدء التاريخ، فنشاهد أن أجدادنا قد دونوا رقصاتهم وغناءهم في صخور الجبال، وكان آخر الاكتشافات ما دونه سليمان بن عبد الرحمن الذييب تحت عنوان «الحياة الاجتماعية قبل الميلاد في ضوء النقوش الثمودية في منطقة حائل»، والصادر عن مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية بتاريخ أبريل (نيسان) 2018. فقد أوحت النقوش إلى أنه لا يخلو أي مجتمع من الترفيه وممارسة الفن الراقي المتمثّل في الغناء والرقص، كما أشار أحد أجدادنا وكان اسمه «أحد» إلى ممارسته الرقص الشعبي والغناء، كما في النقش رقم 112.
أو «بلَ» الذي مارس الغناء الجماعي المختلط، كما دلَّ عليه الرسم الصخري المرفق، وهو «لبل هنب»، فكان يُغني ويرقص بشكل جماعي ومختلط مع إحدى فتيات القبيلة نقش رقم 113.
ومن هنا يجب أن نقلع عن القول بأن جزيرة العرب بلد صحراوية جافة وناشفة المشاعر وقاسية العواطف. فقد أبرزت عكاظ الفن في جزيرة العرب عندما تم غناء المعلقات الشعرية لفحول شعراء العرب، واشتهر صداها في كل أرجاء الجزيرة. فهذا ابن عبد ربه في «العقد الفريد» يقول إن أصل الغناء ومعدنه في أمهات القرى من بلاد العرب ظاهر وفاشٍ، وهي المدينة والطائف وخيبر ووادي القرى ودومة الجندل واليمامة، وهذه القرى هي مجامع أسواق العرب، وقد استمر هذا النهج الغنائي حتى عصر الرحالة بوركهارت الذي أسهب في تأصيل الحالة الغنائية والموسيقية في الحجاز ونجد.
ولا غرو فقد قالت العرب إن الغناء أبو الشعر، وإن الحداء أول الغناء وكان قد أوجده جد العرب الأول مضر بن نزار بن معد كما أورده المسعودي والطبري. ونحن نعرف أنه كان للرسول صلى الله عليه وسلم حادٍ مثل الصحابي أسلم (أسد الغابة: 92-1). وفي إشارة أخرى، فعن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وغلام أسود يقال له أنجشة كان عبداً أسود حسن الحداء يحدو بالنساء، فحدا بأمهات المؤمنين في حجة الوداع فأسرعت الإبل، فقال عليه الصلاة والسلام: «رويدك يا أنجشة، رفقاً بالقوارير» رواه الشيخان (صحيح مسلم).
ولعل من الغريب أن البعض قد لا يعرف أن الشاعرة الخنساء كانت تُغني قصائد رثائها بمصاحبة آلات الموسيقى المتوفرة آنئذ، وكذلك كانت سيدة قريش هند بنت عتبة حينما غنت بمصاحبة فرقة موسيقية في بدر وغيرها، وقبلهما غنت السيدة الشديدة الكرم عنبة بنت عفيف أم حاتم الطائي وجدة عدي بن حاتم.
ومهما يكن، فلم تغب آلات الموسيقى العربية منذ ما قبل العصر الجاهلي (مثل المزهر والمعزفة والمزمار والدف والمُوتر والجلاجل والناقوس والعود… الخ حتى هذا الوقت وإن اختلف بعض المسميات).
إن ركن الأدب العربي كان ولا يزال الشعر، وهو لا يتم إلا بالغناء والرقص تتوارثه الأعراب في جزيرتهم جيلاً بعد جيل، ودليل ذلك أن فن الحداء الذي ابتدعه جد معد الأكبر مضر بن نزار بن معد استمر بإنشاده عبر العصور أمثال الشاعر امرؤ القيس وأمثال الشاعر الإسلامي قيس بن الملوح وصولاً إلى الشاعر ابن سبيل ومحمد الأحمد السدير لم تقطعه الأجيال غناءً وشعراً ورقصاً.