على حين غفلة، فارقتنا زها حديد قبل ثلاث سنوات. نزلت المعمارية العراقية العالمية عن المسرح مثل نجمة تغادر الخشبة في أعلى فصول الدور الذي تبدع في أدائه.
توقف قلبها إثر وعكة طارئة، وبقي صوتها يجلجل حياً. ولها اليوم تصاميم وعمارات يجري افتتاحها في أربعة أطراف الدنيا، من روسيا إلى الصين. صروح تُدرج على الفور في برامج شركات السياحة، يقصدها الزوار ويتصورون أمامها، مثلما يقصدون شواهد الحضارات.
حملت موجات الهجرة مئات المهندسات العراقيات إلى بلاد الاغتراب. وحين كانت الواحدة منهن تتقدم للعمل فإنها تُقابل بنظرات استغراب من رؤساء المؤسسات وشركات المقاولات. كيف لهم أن يصدّقوا أن هذه اللاجئة هي مهندسة شاركت في تشييد أبراج وسدود وجسور ضخمة؟ وعندما تعرضت أهم المنشآت العراقية لقصف الطيران الأميركي، نزلن أولئك البطلات إلى مواقع العمل، بالخوذ الصفراء ووقفن، ليل نهار، تحت شمس حارقة، لأن الأوامر العليا صدرت بإعادة كل شيء إلى ما كان عليه، بغمضة من عين الزمن.
حين هربت إحداهن للالتحاق بزوجها في بريطانيا، سعت لاستئناف دراستها في جامعة مانشستر والحصول على الماستر في الهندسة المدنية. لكنها لم تكن تحمل معها أي شهادة تثبت مؤهلاتها.
قالت لرئيس القسم إنها خرجت من البلد من دون موافقة رسمية، ولذلك يستحيل عليها الحصول على شهاداتها المدرسية والجامعية مصدّقة ومختومة. حكت له عن المشروعات التي كانت مسؤولة عنها، عن الطرقات والجسور العملاقة التي عملت في ترميمها. وتقرر عقد اجتماع لمجلس القسم لمقابلتها واختبارها. وبعد أقل من نصف ساعة تأكدوا من خبرتها ومعلوماتها. وقفوا وصافحوها ووافقوا على قبولها في الدراسات العليا.
هؤلاء هن شقيقات زها حديد وبناتها. وقد نشأ جيل من المهندسات يحفظ صورتها في عينيه أيقونة، واسمها في صدره تميمة. والتقيت في الإمارات بواحدة منهن، هي فاتن الصراف. مهندسة معمارية لها شركتها للتصاميم المعمارية والتنفيذ في دبي.
سيدة ضئيلة القد تتسلق أساكل البناء، وتشتغل في بناء أبراج تدوخ العين لمرآها.
جاءت فاتن لكي تهديني مجلداً مصوراً بعنوان «شجرة البمبر» روت فيه فصولاً من مغامرتها. وأقول «مغامرة» لأن سيرتها الممتدة من البصرة إلى أوروبا وأستراليا هي سلسلة من المدهشات. ولم يكن في جامعة البصرة قسم للهندسة المعمارية. وأصرت على الذهاب بمفردها إلى بغداد للدراسة. وجلست والدتها على ماكينة الخياطة طوال خمس سنوات لكي تؤمن للبنت مصاريفها في العاصمة.
تروي فاتن الصراف في كتابها واقعة حدثت سنة 1994، عند اشتراكها في تشييد برج المأمون في بغداد. وكان في وقته أعلى مبنى في الشرق الأوسط. وطبعاً، لا بد من وضع تمثال للرئيس في الساحة الأمامية. وقام فريق العمال بنصب القاعدة الكونكريتية وتثيبت الجسم البرونزي الضخم للتمثال، ولم يبق سوى تثبيت الرأس.
أي أن يقوم أحدهم بتسلق الجسم والجلوس على كتفيه وترك قدميه متدليتين على صدر الرئيس. وأترك صاحبة الكتاب تكمل الحكاية:
«مَن مِن العراقيين يمكن أن يتطوع للقيام بتلك العملية الفدائية؟ نودي على رئيس العمال فاعتذر. (عندي عائلة وأطفال). نودي على رئيس الحدادين فاعتذر. (ناوي أتزوج وأكمل نصف ديني). ومن بين الجموع الغفيرة الصامتة التي كانت تحيط بالتمثال رفع حسام يده متطوعاً: (قتلني الحصار والجوع ولا يهمني أن أموت).
ترك حذاءه عند المنصة ليعتلي النصب بعد أن تأكدنا من إطفاء كافة أنوار الموقع. وتم تثبيت الرأس في عتمة الليل، في مهمة خاطفة تكللت بالنجاح. ونزل حسام من فوق التمثال وهو يرفع يده بعلامة النصر».
جريدة الشرق الاوسط