كتب غازي القصيبي إلى صديقه الأثير حمد القاضي رسالة خاصة (بخط يده) مليئة بالشجن والألم الذي لم يستطع (العملاق) كتمانه بعد أن فاض به، وهو الصبور الخبير طويل الباع والبال. وقد أحسن الصديق الأستاذ حمد القاضي في نشرها الآن بعد أن مضى على وفاة كاتبها الراحل الكبير قرابة عشرة أعوام.
يقول (الوزير) غازي في رسالته إلى (الكاتب) حمد: «تقف شريحة من المجتمع، ليست للأسف بصغيرة، وشريحة من الإعلام ليست للأسف بصغيرة، موقف المتفرج، وموقف المتفرج يهون عند موقف الشامت متصيّد الأخطاء». وبعد عبارات مليئة بالألم يقول غازي: «أشعر أحياناً وكأنني أمشي على حبل في سيرك وتحتي جمهور يتوقع ويتمنى سقوطي في أي لحظة». ثم لاحقاً يختم غازي رسالته بذروة التشكّي، بما اشتكى به نبي الله محمد إلى ربه عز وجل يوم هُوجم وأوذي عليه الصلاة والسلام: «اللهم إني أشكو إليك ضعفي وقلة حيلتي وهواني على الناس. لم يخجل سيد البشر من قولها، فكيف أخجل أنا!».
يتحدث القصيبي في رسالته تلك، وفي مواضع غيرها، عن وباء اجتماعي تعرّض له، ويتعرض له غيره، وإن كان هو ممن استُهدف كثيراً مقارنةً بغيره.
ما الذي يدفع الناس، بعض الناس، للتخصص في شتم الآخرين، وتكريس وقتهم وقدراتهم ومشاعرهم للعمل في مهنة (الشماتة والشتيمة)، والبحث عن الزلّات والهفوات، واصطيادها وتضخيمها والاحتفال بها، بوصفها مُنجَزاً يحقّقه الشتّام ويضيفه إلى رصيده التصيّدي؟!
ما كُنْه الشعور المفرح الذي يُحسّه أولئك الذين نذروا أنفسهم وجهدهم ووقتهم للنيل من الآخرين ومحاولة تشويههم لأجل إسقاطهم، بالحق أو بالباطل؟!
لن يكون جديداً التنويه بأنه في الوقت الذي يكون المستهدَفون بالإسقاط عادةً من ذوي السيرة المكتظة بالنجاحات والإنجازات (من مثل غازي القصيبي)، فإنه على العكس يظهر المتخصصون في مطاردة الناس وهم يعانون عادةً من فقر سيرتهم الذاتية من النجاحات.
هل هم يعوّضون نقصهم بانتقاص الآخرين؟! أم أنهم لا يجدون سبيلاً لإبراز أنفسهم وامتداحها وسط زحام الناجحين والمتميزين من حولهم، فيسعون إلى إطفاء هؤلاء المضيئين بقوة كي يرى الناس ضوءهم الخافت!
لا شك في أن من أكثر الناس دناءةً، الذي لا يستطيع أن يمتدح نفسه ويُثني على قدراته إلا بانتقاص قدرات الآخرين وشتمهم!
تكاثر هذا الصنف من الناس، أو بالأحرى تكشَّف، من خلال مداولات ومناكشات موقع (تويتر). ومن الملفت شغف بعض هؤلاء بالشتم والسباب حتى لو كان ضدهم وعليهم، فهم يقومون بعمل ريتويت (إعادة تدوير) التغريدة المسيئة لهم طمعاً في زيادة تردد أسمائهم أمام الناس، بالخير أو بالشر!
كيف ينام هؤلاء الناس من دون خجل أو قلق؟!
ينامون حين يضعون لشتائمهم وإيذائهم للناس غطاءً أخلاقياً باسم: البحث عن الحقيقة وكشف المزيفين والدفاع عن الدين والوطن والقيم. هل رأيتم أحداً يدافع عن القيم من دون قيم؟!
زارني الدكتور غازي القصيبي، يرحمه الله، في مكتبي في منظمة اليونسكو عام ٢٠٠٩ (قبل وفاته بعامٍ واحد)، وتحدثنا كثيراً في ذلك اليوم وفي الأسبوع الذي مكثه في باريس، ثم ختم حديثه بقوله: «العيب الكبير في النجاح أنه يزيد الأعداء». قلت له: وما الحل؟ قال فوراً: الامتناع عن مطاردة النجاح حتى يتوقف الأعداء عن مطاردتك. قالها ساخراً، ثم توفيّ منذ عشرة أعوام، لكنه لم يمت حتى اليوم، بل مات الأحياء الذين هاجموه وشتموه.
جريدة الحياة