كانت رحلة سفيرنا تركي الدخيل، الفكرية والشاعرية، هذا الثلاثاء عن مرور ربع قرن على غياب مفكر ليبيا وشاعرها الصادق النيهوم. وقال تركي متواضعاً إنه لم يكن يعرف ذلك العملاق، لكنه بدا في الحقيقة واحداً من أعمق قرائه ومن أصدق محبيه. ولا أدري إن كان من الأفضل للمرء أن يعرف الصادق شخصياً أم أن يكتفي بمعرفة نتاجه البديع. فالصادق الشخص كان أيضاً إنساناً رائعاً… شاعراً كيفما تحرّك، ومفكّراً كيفما تحدّث. وكان يخيّل إليك أنه محاضر بلا انقطاع. لا مجال على الإطلاق لإضاعة الوقت والتحدّث في نوافذ النهار. فهو خارج دائماً من كتاب وداخل إلى كتاب آخر. ولم يكرّس نفسه أو يعدها بأي شيء خارج القراءة والكتابة. وكان مظهره بسيطاً لا يتغيّر: بنطال جينز وقميص عادي بسيط. أما محطّ كلامه الدائم فكان: «يا خيي»؛ يقولها بصدق ظاهر ومحبة فائضة. ولا أعتقد أنه كان في الدنيا أحد ليس أخاً للصادق… فمن «سوق الحشيش» في بنغازي حيث وُلد، إلى هلسنكي حيث أصبح أستاذاً جامعياً، إلى جنيف حيث أمضى سنواته الأخيرة، كان يرى العالم على أنه منزل في حاجة إلى الدفء والعناية، وبصورة خاصة إلى حديقة واسعة ونوافذ كثيرة. فأما النوافذ فمن أجل أن تخرج منها الأساطير والخرافات. وأما الحديقة فلأنها تشبه هذا المخلوق الضعيف الذي يتغيّر مزاجه وأحواله من دقيقة إلى أخرى، ومن بيئة إلى أخرى، ومن تأثير فكري إلى آخر.
كان من الأجمل طبعاً أن تعرف الصادق وأن تحيا في مودّاته التي لا حدود لها، ولو أن ثمن ذلك، الحزن الذي سيرافقك مدى الحياة على غياب هذا النموذج القادم من كوكب آخر إلى هذا الكوكب الذي يصعب عليه أن يتفهّم هذا النوع من النفوس شديدة السمو. بهذا المعنى أتفهّم كثيراً تحسّر تركي الدخيل على عدم التعرّف الشخصي بصادق. لكن سواء عرفه المرء أم لا، فإن ما بقي من الصادق من أدب وفكر ونبل، يكفي للعودة إليه باستمرار. وهذا ما أفعله على الدوام بكلّ تشوّق وإعجاب. وكلّما عدت إلى الماضي أرى كم كان الصادق مستقبلياً، بعيد الآفاق. وكانت ثقافته مثل كنز متعدّد الجواهر. وما من شيء سطحي فيها أو عابر، فالحضارات بالنسبة له بئر عميقة، لا بد للمرء من أن يعيش على حافّتها بغية الارتواء. والانطلاق طبعاً من لغته وحضارته الأم، التي كانت هاجسه وشغفه. غير أن هذا كان دأبه أيضاً حيال الحضارات الأخرى. فقد كان متضلّعاً في آداب إيريك فروم، بقدر ما كان متعمّقاً بظاهرة عبد الوهاب البياتي الذي خصّه بكتاب من جمالياته.
وأخيراً فإن الدبلوماسية قد كسبت في تركي الدخيل وجهاً يليق بها، وحسن أنه لم يترك الصحافة كلِّياً إليها.
كان من الأجمل طبعاً أن تعرف الصادق وأن تحيا في مودّاته التي لا حدود لها، ولو أن ثمن ذلك، الحزن الذي سيرافقك مدى الحياة على غياب هذا النموذج القادم من كوكب آخر إلى هذا الكوكب الذي يصعب عليه أن يتفهّم هذا النوع من النفوس شديدة السمو. بهذا المعنى أتفهّم كثيراً تحسّر تركي الدخيل على عدم التعرّف الشخصي بصادق. لكن سواء عرفه المرء أم لا، فإن ما بقي من الصادق من أدب وفكر ونبل، يكفي للعودة إليه باستمرار. وهذا ما أفعله على الدوام بكلّ تشوّق وإعجاب. وكلّما عدت إلى الماضي أرى كم كان الصادق مستقبلياً، بعيد الآفاق. وكانت ثقافته مثل كنز متعدّد الجواهر. وما من شيء سطحي فيها أو عابر، فالحضارات بالنسبة له بئر عميقة، لا بد للمرء من أن يعيش على حافّتها بغية الارتواء. والانطلاق طبعاً من لغته وحضارته الأم، التي كانت هاجسه وشغفه. غير أن هذا كان دأبه أيضاً حيال الحضارات الأخرى. فقد كان متضلّعاً في آداب إيريك فروم، بقدر ما كان متعمّقاً بظاهرة عبد الوهاب البياتي الذي خصّه بكتاب من جمالياته.
وأخيراً فإن الدبلوماسية قد كسبت في تركي الدخيل وجهاً يليق بها، وحسن أنه لم يترك الصحافة كلِّياً إليها.
جريدة الشرق الاوسط