يبدو الأمر لافتاً في هرولة الكتابة الإبداعية اليوم نحو الرواية والقصة القصيرة، وربما الشعر وشيء من المسرح. وتالياً يحضر مشهد وقوائم الجوائز الأدبية الطويلة والقصيرة، واحتفالات الفوز والفائزين، والنشر والناشرين، ومعارض الكتب، ومجاميع القراءة، ووسائل التواصل الاجتماعي. كل هذه العناصر؛ متفرقة أو مجتمعة، قد تشغل ذهن الكاتب العربي لحظة أن يختار موضوعاً لعمله الإبداعي. لكن قليلة جداً الأعمال العربية المتخصصة التي تتوجَّه للمرضى، أو لذوي الاحتياجات الخاصة، أو فئات خاصة من المجتمع. فمثل هذه الأعمال، ولأنها لا تطرح نفسها بوصفها مشاريع جوائز وشهرة وربح ومعارض كتب وندوات، تبقى قليلة، وربما خارج نطاق الاهتمام النقدي، ولو من باب كتابة عمود في صحيفة يومية.
“الأوسمة الثلاثة” كتاب من القطع المتوسط (86 صفحة)، صادر بطبعته الأولى عام 2018، بجهد شخصي من المؤلفة إيمان مهدي الموسوي، طُبع في مطابع الأيام التجارية بالبحرين. وهو رغم صغر حجمه، بحيث يمكن قراءته في جلسة واحدة، فإنه متميِّز في بابه، ولافت أكثر في رسالته الإنسانية.
“الأوسمة الثلاثة” يأتي على لسان الفنانة التشكيلية ديانا الشيخ، وهي تقصّ حكايتها مع مقاومة مرض السرطان، في ثلاث هجمات استهدفت جسدها في أكثر من مكان، وكان أن غيَّرت حياتها، وبالتالي نظرتها للعالم. ديانا الشيخ امرأة نشأت في بيت فني، حيث والدها فنان تشكيلي، كما أن أخوات لها يعملن في مجال الفن التشكيلي. لكن مرض السرطان، وكما هي عادته، غافلها وهاجمها في صدرها، لتبدأ حياة جديدة بالتكشف أمامها، حيث المعاناة والوجع أكثر من أي شيء آخر، وحيث يبقى الأمل على البعد يلوح كضوء شمعة، بانتظار من ينتبه إليه ويعطيه ما يستحق من احتضان واهتمام.
ديانا الشيخ، تشرح بأسلوب سهل وإنساني مراحل علاجها من سرطان الثدي، وتالياً سرطان عظام الورك، وثالثاً سرطان أصاب رأسها، وهي تقول: “عندما يهاجمك وحش شرس، فإن أمامك ثلاثة خيارات: أن تهرب ولا تضمن نجاتك فقد يلاحقك ويفتك بك، أو أن تستسلم فتكون فريسة سهلة ووجبة دسمة له! أو أن تقاوم وهذا يعتمد على قوتك وأسلحتك في المقاومة، ورغم أنني اخترت طريق النضال، إلا أنني بحذاقة المقاوم اكتشفت سبيلاً رابعاً وهو الترويض والمصالحة. فليعلم المناضلون أن التصالح مع الذات أقوى أسلحة النضال، وأن السكينة إذا ما غمرت النفس وهدأ العقل، فإن مملكة الجسد سيعم فيها السلام”. (ص 43)
“الأوسمة الثلاثة” اختصار لتجربة حياة غنية ومعجونة بالألم والمعاناة، لكنها من جهة أخرى معجونة وملونة بالأمل. فكل إنسان معرَّض لأن يمرض، والسرطان مرض كأي مرض. صحيح أنه مرض خبيث، وصحيح أن علاجه مؤلم وموجع وطويل، وصحيح أنه يسلب من الإنسان قدرته على مزاولة حياته اليومية بالشكل الطبيعي، لكن الصحيح أيضاً هو أن قرار الإنسان بالتعايش مع وضعه الجديد والإقبال على الحياة، وأخذ العلاجات بنفس راضية ومتيقنة من النتائج الإيجابية، وترديد الجملة السحر: للمرض وجود في جسدي، لكن عقلي وأفكاري ملكي، وكذا هو أملي الكبير في الحياة، ولن أضحي بهما لكائن خبيث اسمه السرطان.
ديانا الشيخ لجأت في محنة مرضها إلى الإبداع: إلى الكتابة والرسم. شعرت بأن كتابتها لتجربتها مع المرض وانتصارها عليه قد تكون حافزاً لمرضى كثر حول العالم، وأدركت أن انشغالها بالرسم، وبقدر ما يستهلك وقتها في متعة الإنجاز، بقدر ما يكون طريقها لمعايشة الحياة والانخراط في وصلها بالآخر.
السرطان خبث، ولا يمكن لخبث أن ينتصر. الطب يتطور، لكن ما يجب أن يتطور أكثر هو يقين الإنسان بقدرته على اجتياز المحنة، وقدرته على رؤية حياة جديدة يمكن أن تكون منعطفا لرؤية العالم بشكل مختلف.
حياة ديانا الشيخ، بمعايشتها ومعاناتها لهجمات السرطان الخبيثة، ما كان لها أن ترى النور لولا جهد إنساني نبيل من الكاتبة إيمان الموسوي، ولولا يقين إيمان بأن هذه تجربة إنسانية كبيرة ومهمة تستحق الوقوف أمامها وكتابتها وتخليد أجمل ما فيها عبر الكلمة والصورة.
“الأوسمة الثلاثة” كتاب صغير في حجمه، لكن رسالته الإنسانية كبيرة ومهمة، واقترح على وزارة الصحة في الكويت، وعلى الصديق العزيز الكاتب د. خالد الصالح، وهو القريب من تجارب مرض السرطان في الكويت والوطن العربي والعالم، أن يهتم بوضع هذا الكتاب في جميع مستشفيات ومراكز العلاج، فمؤكد أن كلماته ستكون مصباحاً ينير ظلمة قلوب كسرها السرطان الخبيث، وعصا أمل يتوكأ عليها من يحتاج إلى كلمة تعينه على تلمس درب الأمل.
جريدة الجريدة