يُعد الكاتب الفرنسي/ اللبناني أمين معلوف عضوُ الأكاديمية الفرنسية أحدَ مفكري العالم، وتُعد كتبه بمنزلة مراجع يقرأها العالم بمختلف لغاته، ليرى ماذا يكتب الرجل.
“غرق الحضارات -LE NAUFRAGE DES CIVILISATIONS” كتاب معلوف الأخير الصادر عن دار الفارابي بنسخته الأولى 2019 بترجمة نهلة بيضون، يقدم سرداً تاريخياً لأحداث منطقة الشرق الأوسط، وارتباطها بأحداث العالم. وهذا السرد التاريخي يأتي متداخلاً مع السيرة الشخصية لحياة معلوف، بدءاً من ولادته عام 1949، وحتى اللحظة الراهنة.
سرد روائي مشوّق، يربط بين أحوال أسرة الكاتب اللبنانية التي استوطنت مصر، وعاشت فيها أحلى أيامها، وبين ما يحدث في الشارع المصري: “كانت مصر، الوطن بالتبني لأسرة أمي، تعيش حالة غليان. ففي 12 شباط/ فبراير، قبل أسبوعين من ولادتي، اغتيل حسن البنا، مؤسس حركة الإخوان المسلمين.. وجاء اغتياله رداً على اغتيال رئيس الوزراء المصري، النقراشي باشا، الذي أرداه قتيلاً أحد الإخوان المسلمين قبل شهر ونصف الشهر، في 28 كانون الأول/ ديسمبر” ص24. وهكذا يسرح معلوف في تبيان أحوال مصر، منطلقاً من وضع عائلته، ويسهب في حيرته، لحين شبابه، في تقييم فترة حكم الرئيس عبدالناصر، الذي جار على أسرته أولاً، وأخذ مصر ومعها الشعوب العربية إلى الحدث المفصلي الأهم في منطقة الشرق الأوسط، صبيحة الخامس من يونيو عام 1967. والذي يقول فيه معلوف، في مقابلة أجرتها معه محطة “فرنسا 24”: “في الخامس من حزيران/ يونيو، بدأ البؤس العربي ولم ينتهِ، فالعرب لم يتخطوا لحظة الهزيمة، وإسرائيل لم تتمكن من الإفلات من فخ الانتصار”.
الكتاب في مجمله يقدم صورة بانورامية لتاريخ منطقة الشرق الأوسط وصلاتها بالعالم، من منظور شخص ولِد وعاش في لبنان، وتشرب بالفكر والإحساس العربي، ثم استقر في فرنسا، وارتقى بعلمه ليكون أحد مفكري العالم، وليتمكن من تكوين رأي مهم حول المنطقة والعالم في لحظتها الحاضرة.
إلى جانب ذلك، فإن الكتاب مليء بالحس الأدبي، بدءاً بسرده الروائي مروراً بتحليلاته، وخاصة ما جاء بخصوص الأسباب التي أدت إلى انتقال مركز التنوير العربي من القاهرة إلى بيروت، وكيف أن هذه المنطقة، ميلاد كل الأديان السماوية، كان من الممكن أن تقدم نموذجاً ناجزاً للعالم بأسره، لو أنها استطاعت التعايش في أجواء سلمية، ولو أنها استطاعت أن تحافظ على لحمتها في وجه التغيرات التاريخية، وأن توقف عمليات تخريب مجتمعات الشرق الأوسط التي أدت فيما أدت إلى خراب العالم بأسره.
إن أهمية كتاب “غرق الحضارات” هي في أن القارئ يستطيع الوقوف على أحداث وشخصيات كثيرة يرد ذكرها في الكتاب، ويرى سلوكها وأفكارها، وكنموذج على ذلك يذكر معلوف طرح الفيلسوف الأميركي وليم جيمس الذي يرى أن حرب العنف والقتل تأخذ الإنسان إلى أجوائها ومساوئها، وبالتالي يمكن لـ”حرب جيدة” أن
تنفس عن مواهبه وقدراته، وبالتالي تدفع به، ومعه المجتمع، إلى مزيد من العطاء والرخاء والسلم.
ويرى أمين معلوف أن 1979 هو عام الانقلاب الكبير، متحدثاً عن وصول الإمام الخميني لحكم إيران، ووصول مارغريت تاتشر لحكم بريطانياً، وتالياً تفكك الاتحاد السوفياتي وأثر ذلك على منطقة الشرق الأوسط والعالم، ويخلص إلى نتيجة مهمة مفادها أن أميركا بحكامها وعقولها المفكِّرة لم تستطع الاستفادة من سقوط الاتحاد السوفياتي، العدو الشيوعي التاريخي للرأسمالية، ووجدت نفسها عاجزة، خلال مرحلة مفصلية من تاريخ العالم، أن تكون القوة الوحيدة، وأن تكون مرجع العالم في السلم والحرب، ويبرر معلوف ذلك لأميركا بقوله: “نخطئ إذا رمينا بحجر هذا الرئيس الأميركي أو ذاك، أو مستشاريه، فالمهمة الملقاة على عاتقهم إبان الخروج من الحرب الباردة كانت شاقة وحساسة. لم يكن الأمر يتعلق بأن يضطلعوا بدور، بل بأن يخترعوا هذا الدور من الأساس، وسط مشهد عالمي غير مسبوق” ص269.
ويوضّح معلوف أن ما يشير إليه عنوان كتابه هو إلى حدٍ ما رد غير مباشر على كتاب “صراع الحضارات”، “فلسنا في عالم تتصارع فيه الحضارات، نحن في عالم تهوي فيه الحضارات، تنهار فيه الحضارات كلها، الأقوى والأضعف، التي لها دور عالمي واضح، والتي ليس لها دور عالمي، المنتصرون والمهزومون، جميعهم في حالة تراجع وفي خطر الانتهاء”.
وتبدو نظرة الألم التي تصل إلى حد التشاؤم واضحة في الأقسام الأخيرة من الكتاب، خصوصا رأي معلوف فيما تقدمه التكنولوجيا للإنسان في وقتنا الراهن؛ “إننا نظن أننا نتقدم، فيما نحن، في الحقيقة، ننحرف عن مسارنا. إننا نحزر تقدماً في ميادين عديدة، ونعيش بشكل أفضل، ولفترة أطول. ولكن شيئاً ما يضيع أثناء ذلك. حرية الذهاب والمجيء، حرية الكلام والكتابة، من دون أن نكون خاضعين للمراقبة باستمرار”.
الجريدة