هل حدث لكم أن انهمكتم في قراءة كتاب ما، ووجدتم أنفسكم تمضون في قراءة صفحاته برضا وسعادة ومتعة، قبل أن ينتابكم الشعور بأن ما تقرؤونه فيه ليس جديداً عليكم تماماً، وأنه سبق لكم أن قرأتموه في مكان آخر، في كتاب آخر، وفي زمن آخر، حتى تستيقظ لديكم الذاكرة التي أصابها الكثير أو القليل من الوهن، فتدركوا، متأخرين، أنكم قد قرأتم الكتاب نفسه، لا بل النسخة ذاتها من هذا الكتاب التي هي بين أيديكم الآن، لكنكم لحظة اخترتم الكتاب لقراءته من بين رفوف مكتبتكم كنتم قد نسيتم كل ذلك.
هذا ما يحكي عنه بارتريك زوسكيند، الكاتب الألماني الذي يعرفه الكثيرون منكم. ربما يكون بعض من مرّ عليهم هذا الاسم من قبل قد نسوه، طالما الحديث يدور هنا عن آفة النسيان، فلا بأس، إذن، أن أذكركم بأنه مؤلف الرواية الشهيرة، التي أصبحت فيلماً «العطر»، وأنه ترجمت إلى العربية من أعماله رواية صغيرة ممتعة اسمها «الحمامة». كما أن نصاً مسرحياً جميلاً له عنوانه «الكونتراباص» قد ترجم، هو الآخر إلى العربية، وأعتبر نفسي محظوظاً لأني شاهدت، قبل سنوات، هذا النص يمثل على خشبة المسرح.
لزوسكيند كتاب آخر ترجمه إلى العربية كاميران حوج، وصدر عن «دار الجمل». ضمّ هذا الكتاب صغير الحجم ثلاث حكايات وملاحظة تأملية. سندع الحكايات الثلاث جانباً اليوم، ونحكي عن الملاحظة التأملية ذات الصلة بما بدأنا به الحديث.
تحكي الملاحظة عن رجل، قد يكون هو الكاتب نفسه، مشغول بأمر الإجابة على سؤال عن الكتاب أو الكتب التي غيّرت مجرى حياته. لكنه لا يستطيع أن يجزم ما هو هذا الكتاب، أو مجموعة الكتب، التي فعلت ذلك، فيقترب من مكتبة بيته ويمد يده على غير هدى إلى واحد من الكتب المصفوفة فيها ويدير ظهره كأنه حصل على غنيمة. يفتح الكتاب، ويتصفحه وينشغل بقراءته.
في الحال يلاحظ أنه أحسن الاختيار. ما أصبح بيده كتاب مهم فيه نثر مصقول وأفكار جلية مطرز بمعلومات مهمة غير معروفة لديه. كل جملة فيه ذات فائدة عظيمة. لا الخطوط تحت السطور ولا إشارات التعجب المرسومة بقلم الرصاص حول بعض الجمل تزعجه، فلا يكاد ينتبه لها لشدة استغراقه في القراءة، وحين ينتبه إليها يجد أنه يوافق عليها، ليكتشف أن قارئ الكتاب السابق وضع خطوطه وعلامات تعجبه على نفس الجمل التي تستوقفه هو أيضاً.
سرعان ما بلغ الرجل عبارة استوقفته كثيراً. قال: «هذه جملة تستحق أن أضع تحتها خطاً، وأن أكتب على طرف الصفحة قبالتها عبارة «جيد جداً»، تعبيراً عن إعجابه بما قرأ، لكنه عندما أنزل قلم الرصاص ليخط العبارة، وجد أن العبارة نفسها قد كتبت من قبل بخط يعرفه جيداً. إنه خطّه.
لم يكن القارئ السابق أحداً غيره، لكنه نسي أنه قرأ الكتاب.
جريدة الخليج