«إنها أختي، تلك المرأة المتوسلة الراكعة منتحبة على ركبتيها. أختي تلك التي اعتادت أن تكون رائعة وفي أقصى حالات الكبرياء. إنها أختي، فهل تدرون ما الذي يُنتزع منها هنا أمام أنظاركم؟ إنه روحها!». بهذه العبارات تحدث ذات يوم عند بدايات القرن العشرين، واحد من أكبر شعراء فرنسا، بول كلوديل. وكان حديثه يتعلق تحديداً بمنحوتة ضخمة توجد نسختها من الجبس معروضة منذ زمن طويل في متحف أورساي الباريسي، علماً أن للمنحوتة نسختين أخريين من البرونز لم تتمكن صاحبة المنحوتة من الحصول عليهما. والسبب أنها حين انتهت من إبداع ذلك العمل الفني لتعرضه في «صالون الفنون الجميلة» الباريسي، لم تكن تملك المال الكافي لعملية صب المنحوتة في البرونز، فتولى العملية كابتن ثري دفع التكاليف ليحتفظ بالنسخة البرونزية لنفسه، كما سيفعل من بعده ثري آخر. فبقي للنحاتة الأصل الجبسي. لكنها هي كانت في ذلك الحين قد أضحت في جو آخر تماماً… في مصحة للأمراض العقلية! ذلك أن الفنانة التي نتحدث عنها هنا ما هي سوى كاميل كلوديل، أخت الشاعر الفرنسي الكبير. أما المنحوتة في حد ذاتها، فتروي، كنوع من «نحت السيرة الذاتية»، وتحديداً، حكاية وصول كاميل الى تلك النهاية. وهي حكاية تتعلق على أي حال بالنحات الفرنسي الكبير رودان، كما بات كثر منا يعرفون، وعلى الأقل منذ ظهور الفيلم الذي كرسه السينمائي برونو نويتن لتلك الحكاية.
> والحقيقة أنه قبل أن يحقق نويتن فيلم «كاميل كلوديل» من تمثيل زوجته في ذلك الحين، الفنانة إيزابيل آدجاني، معطياً هذه الأخيرة واحداً من أجمل أدوار حياتها وأقساها، كان الفرنسيون لا يعرفون من أسرة كلوديل سوى الشاعر والكاتب المسرحي الكبير بول كلوديل، الذي اتسمت سيرته على الدوام بقدر كبير من الجدية والصرامة، وتصرفاته بالموضوعية، وشعره بالطابع الروحاني الكاثوليكي الصرف. فالرجل كان – بعد كل شيء – سفيراً لبلاده، فرنسا، في مرحلة من مراحل حياته. ومن هنا، كان الفرنسيون يكنّون له احتراماً مشوباً بوضع مسافة دائمة بينهم وبينه.
> لكن منذ اللحظة التي اكتُشف فيها فيلم نويتن، صار اسم كلوديل الأكثر شهرة، اسم كاميل كلوديل، شقيقة بول، ونقيضته في كل شيء: في الشخصية، في الوله والعاطفة، في سيرة حياتها، وفي نهايتها المأسوية. فالحال أن كاميل كلوديل، التي ماتت في العام 1943، عن سن الثامنة والسبعين، وحيدة منعزلة لا يتنبه لها، لوجودها أو لموتها، أحد في وقت كانت فرنسا تعيش أحلك ساعات تاريخها خلال الحرب العالمية الثانية، كاميل كلوديل هذه عاشت حياة صخب ووله غريبة، ربما كانت تعكس في حد ذاتها مصيراً أنثوياً كاملاً خلال النصف الأول من القرن العشرين هذا.
> مهما يكن فنحن، إذ نذكر كاميل كلوديل هنا، فليس – بالطبع – بسبب سيرة حياتها ونهايتها المأسوية وغرامها المدمر، بل لأنها كانت واحدة من النحاتات الفرنسيات القليلات اللواتي عرفن كيف يثبتن لأنفسهن مكانة في فن النحت الذي عرف على الدوام بأنه يكاد يكون وقفاً على الذكور. في ذلك الحين، عند نهايات القرن التاسع عشر وبدايات ذاك التالي له، أي في الزمن الذي حققت كاميل أفضل منحوتاتها، وبخاصة منحوتة «سن الرشد» التي نحن في صدد الحديث عنها هنا، كان النحت فناً ذكورياً بامتياز، ولم تكن فورة النحاتات النساء قد ظهرت بعد، بحيث صارت الساحة الفنية الفرنسية تعرف العشرات منهن، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. فإذا إضفنا الى هذا أن كاميل كانت كلاسيكية في توجّه منحوتاتها، كلاسيكية تكاد تكون حرفية في شكل لم يُعهد لدى فنانات نساء من قبل، يمكننا أن ندرك بعض سمات العزلة التي عاشتها تلك المبدعة، وجعلت مأساتها أكثر من مزدوجة.
> كمنت مأساة كاميل كلوديل، في أنها أرادت أن تكون آخر المبدعين الرومانطيقيين، لذلك، ما إن تعرّفت الى النحات الكبير أوغست رودان بوصفه أستاذاً – معلماً، حتى أغرمت به وبدأت تعيش معه علاقة حب، جعلتها تمّحي أمامه تماماً. ففي أي مكان كان يجمعهما، كانت كاميل تبدي أمامه كل آيات الطاعة، أولاً لأنه معلم كبير، وثانياً، لأنه حبيبها، وثالثاً لأن رودان كان يثمن ذكوريته تثميناً كبيراً زاد من صلابة تعامله مع الحجر في الفن الذي أبدعه.
> ومن هنا، كان من الطبيعي لكاميل كلوديل أن تعيش سنوات شبابها ممزقة بين مثلها العليا القديمة كفتاة متمردة تسعى الى التساوي مع الرجال، وتستفيد من علاقتها بأخيها الشاعر العقلاني، إمعاناً في وعي العالم بعقل متنبه وتواكب مع مساواة كانت النساء قد بدأن يسعين إليها عند العقود الفاصلة بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين، من ناحية، وولعها برودان، ذلك الأستاذ المبدع والعشيق القاسي المتسلّط.
> هذا التمزّق حسمته كاميل كلوديل لمصلحة قلبها على حساب عقلها، فكان أن جعلت حتى منحوتاتها مجرد محاكاة لمنحوتات حبيبها الكبير، وجعلت نفسها ظلاً له، تقبل بما يريده لها، وترفض ما ينكره عليها. صحيح أن رودان بادلها حباً بحب خلال فترة طويلة من الزمن، بيد أن عقلانية التعامل مع الحجر، والتوجه الكلاسيكي الذي وسم فنه وحياته ومناوأته للرومانسية، هذا كله جعله عاجزاً عن التعايش مع حبها وولهها.
> فكانت النتيجة أن انحدرت كاميل بالتدريج نحو الجنون. هذا الجنون تمثل أولاً في انعكاسه على منحوتاتها، – لا سيما منها منحوتة «سن الرشد» التي تعتبر واحدة من أجملها وأشهرها – تلك المنحوتات التي بدأت تخرج عن الأطر الكلاسيكية والموضوعية لتدخل ملكوت الفن الحقيقي، وسط معارضة رودان نفسه لذلك. ثم بدأ – الجنون – يتمثل في الانحدار الفعلي والجسدي الذي عاشته كاميل، والذي ظل يتواصل ثلاثين عاماً، كانت مجموع أعوام القسم الثاني من حياتها، أي القسم الذي أمضته كله في مستشفى للأمراض العقلية.
> صحيح أن الخط التقني الذي اتبعته كاميل في تحقيق «سن الرشد» (ولها عناوين أخرى على أي حال، مثل «المصير» و»القدر» و»طريق الحياة»، وكلها كما نلاحظ عناوين لا تتعلق بالمنحوتة نفسها بقدر ما تتعلق بما كانت النحاتة تريد قوله من خلالها)، صحيح أن هذا الخط تعبيريّ في كلاسيكيته وأنيق في تشكّله ويبدو تجديديّاً الى حد كبير في مجال استخدام الكتل الجامدة والتوزع في المكان، غير أن الأهم من هذا بالنسبة الى كاميل، كان في مكان آخر. في ذلك «المكان» الذي عبّر عنه أخوها بول في المقتطف الذي ذكرناه أعلاه. ففي هذه المنحوتة، ثمة بالتأكيد حكاية هي حكاية كاميل مع رودان. حيث أن ما نراه بأم أعيننا هنا إنما هو الغرام الذي كانت كاميل لا تزال تحمله بكل شغف وجنون لرودان الذي كان قد بدأ يصدها ويتخلى عنها بعد ما يقرب من عشرين عاماً من علاقة صاخبة بينهما. فالنحات الذي كان ملء السمع والبصر في فرنسا العصر الذهب في ذلك الحين، لم يكن من النوع الذي يمكنه أن يعيش غراماً حقيقياً. كان دائماً ما يريد من المرأة، أي امراة، أن تكون مجرد تابعة له. عبدة لمزاجه ونرجسيته إذا صح التعبير… ومن هنا كانت السنوات الطويلة التي عاشتها « قصة الحب» بينه وبين كاميل، أشبه بقصة حب من طرف واحد، هي تحبه بجنون وتضحّي بكل شيء من أجله، وهو يتملص منها مندفعاً في علاقات يصخب بها المجتمع. ولئن كانت كاميل قد سكتت عن معظم تلك العلاقات، فإن علاقة أقامها بعد كل تلك السنوات مع الحسناء روز بوريه، كانت القشة التي قصمت ظهر البعير، كما يقول المثل. ومن هنا، فإن روز هي الشخص الثالث في المنحوتة، الشخص الذي يندفع إليه النحات، فيما كاميل تحاول الإمساك به واستعادته جاثية على ركبتيها متوسّلة باكية… «تُنتزع روحها» أمامنا كما قال أخوها معلقاً على هذا العمل الفني الذي لمرة نادرة يحوّل النحت الى فضاء يعبر عن سيرة الذات!
> يمكننا القول بعد كل شيء أن تلك المنحوتة تحدد تاريخياً انتقال كاميل كلوديل الى الجنون، ليكون ذلك الانتقال إشارة الى تلك النقلة السريعة التي حدثت في حياة امرأة القرن العشرين، وتمزقها بين رغباتها وطموحاتها، بين إمكاناتها الذاتية وما يعرض لها في الخارج، بين عواطفها المستقاة من رومانسية مغرقة في القدم من ناحية، وحدود العاطفة من ناحية أخرى، كما صاغها القرن العشرون، قرن العقل والجنون غير الخلاق.
منحوتة «سن الرشد» (الحياة)