في مجمل تجربته الشعرية، قدّم محمود درويش المثال الشعري النموذجي؛ إن كان لهذا المثال من وجود، وهو الجمع بين فلسطينيّته، وبين الكونية، لكن هذا يبرز بصفة خاصة في المرحلة الأخيرة من تجربته الأكثر نضجاً ورحابة وعمقاً، والتي انفتح فيها نصه الشعري على ما يمكن أن نعده تأملات فلسفية عميقة، في العلاقة مع الحياة والموت، في مغزى الوجود الإنساني، وفي البحث عن القيم المطلقة للعدالة والحق.
في هذا لا معنى للسجال العقيم، حول ما إذا كانت فلسطينية درويش ـ لا نعني بها انتماءه لفلسطين، كما ينتمي أي شاعر آخر لبلده فحسب؛ وإنما في كونه لصيقاً بقضية شعبه ـ قد خدمت أو أضعفت كونية الشعر الذي كتبه؛ لأننا بهذا النوع من السجال نسعى لتفكيك أو تجزئة ما لا يمكن تفكيكه أو تجزئته.
ما كان لمحمود درويش أن يكون ما كانه، كصاحب تجربة شعرية فريدة من نوعها، لو لم يكن منغرساً فـي الهم الفلسطيني، ولنقُلها بصورة أكثر مباشرة ووضوحاً، لو لم يكن فلسطينياً؛ لأن الفضاءات التي بلغتها تجربته الشعرية، لاحقاً، ما كانت ستتحق ـ بالصورة التي تحققت بها ـ لو غاب شرط «وطنية» محمود، نعني: فلسطينيّته.
ما فعله درويش هو أنه جعل المحنة/الملحمة الفلسطينية، نصاً كونياً إنسانياً، ولم يفعل ذلك بموهبة الشعر وحده، فليس هو الوحيد الموهوب بين شعراء فلسطين، وبين الشعراء العرب، أو بين السابقين له منهم أو اللاحقين، وإنما من ذلك الدأب المعرفي الذي استغرق منه الكثير، وقاده إلى عوالم الفلسفة والأسطورة والتاريخ والهوية، وتعزز كل ذلك بالتجربة الشخصية للشاعر في معناها المباشر، غير المحصورة في كونه فلسطينياً فحسب؛ وإنما أيضاً، تلك الناجمة عن علاقته ـ كفرد ـ بالوطن والمنفى واختبارات الموت.
تجلى ذلك أكثر في الفصل الأخير من مجمل تجربته، حيث بلغ ذرى غير مسبوقة من النضج والحكمة والإمساك بما هو أكثر حميمية ونبلاً وعمقاً في ذات الإنسان، للدرجة التي أوشك أن يُذيب فيها الحواجز أو الفواصل بين ما هو خاص، وبين ما هو عام.
والعام هنا هو الجرح الفلسطيني المكابر، الذي عبّـر عنه باللازم من الوضوح، حيث لا مكان هنا للتورية أو المجاز، فالشهيد لا يمكن إلا أن يسمى شهيداً، والحصار لا يمكن أن يسمى إلا حصاراً، والخسارة لا يمكن إلا أن تسمى خسارة: «خسائرنا: من شهيدين حتى ثمانــية كــل يوم، وعــشرة جرحى، وعشرون بيتاً، وعشرون زيتونة.. بالإضافــة للخلل البنيوي الذي سيصيب القصيدة والمسرحية واللوحة الناقصة».
بمعزل عن هذا، لن نفهم تجربة درويش، الذي ظلّ يذكر أن شهيداً رجاه: «لا تسر في جنازتي إلا إذا كنت تعرفني، لا أريد مجاملة من أحد»، ولأن شهيداً آخر سأله: إن «كنت أعد للقواميس كل الكلام الذي أهديتنيه».
جريدة الخليج