هل يستطيع الشعر أن يسترجع من الموت حبيبة رحلت، مجترحاً ما يشبه المعجزة؟ حاول الشاعر أورفيوس غابراً أن يسترجع حبيبته أوريديس من عمق الموت بعدما سحر آلهة الإغريق بغنائه لكنه فشل وفقدها عقاباً على عصيانه مشيئتهم هم الذين أنهوه عن النظر إليها قبل عبور الجحيم. عجز أورفيوس إذاً عن اجتراح المعجزة وغدا الشعراء يستعيدون حبيباتهم مجازياً، شعرياً وغنائياً وفي صميم اللغة القادرة على تجسيد حال الغياب. الشاعر الفرنسي فردريك بواييه أدرك مسبقاً أن حبيبته التي قضت غرقاً في البحر لن تعود إلا عبر القصيدة ولغتها، فاختار لديوانه عنواناً غير حاسم هو «ربما غير خالدة» (دار ب.و.ل– باريس 2018). ودارت نصوص الديوان أو قصائده حول جدلية الخلود/ الفناء أو الحضور/ الغياب، وقد تمكن الشاعر في حمأة التجربة التي قاساها أن يلغي حال التناقض بين القطبين المتواجهين وأن يوحد بينهما، فإذا الفناء خلود والغياب حضور. يخاطب الشاعر امرأته قائلاً: «لأنك أنت هناك/ وأنا لست هناك/ هناك حيث لا أعلم أين/ هل أنت هناك حيث لست تكونين عندما أقول أنك أنت/ أنت هناك حيث لا أتبعك عندما لا تكونين «.
في الحادي والعشرين من تموز (يوليو) 2017 غرقت الفيلسوفة والروائية وعالمة التحليل النفسي الفرنسية آن دوفورمانتيل بينما كانت تنقذ ولدين من الغرق على شاطئ بامبولون الفرنسي. أنقذت الولدين لكنّ قلبها خانها فتوفيت للحين في الماء. كُتب الكثير عنها وعن معنى استشهادها والتضحية التي بذلتها لإنقاذ الولدين. كان لها ثلاثة وخمسون عاماً وأعمال مهمة جداً في الفلسفة وعلم النفس والرواية، وكانت للمصادفة قالت في حوار مع جريدة «ليبراسيون»: «عندما يواجه الإنسان خطراً داهماً يوجب الردّ عليه، يكون هناك تحريض على الفعل، بالغ الشدة، بل يكون هناك نوع من التفاني وتجاوز الذات». لعل هذه الكاتبة حولت بالتضحية التي قدمتها، الموقف الفلسفي فعلاً فلسفياً أي إنسانياً. آن دوفورمانتيل هي زوجة الشاعر فرديريك بواييه والكتاب ذو العنوان الغريب «ربما غير خالدة» هو كتابها، والمرأة التي تحضر بروحها وطيفها وحواسها، هي الزوجة نفسها.
لم يكتب الشاعر قصيدة واحدة طويلة تمتد بحسب صفحات الديوان نحو ثماني وثمانين صفحة، بل اعتمد ما يشبه التقطيع الموضوعاتي أو التيماتيكي مع أن لا موضوعات مستقلة هنا أو قائمة بنفسها. أراد الشاعر هذه القصيدة مركبة تركيباً عضوياً وبنيوياً عبر ثلاث حركات: الحركة الأولى حملت عنوان الديوان نفسه «ربما غير خالدة»، والثانية عنوان «رسالة» والثالثة «حيوات». وإن بدت كل حركة تختلف عن الأخرى شكلاً وإيقاعاً، فالثلاث تصب بعضاً في بعض لتؤلف هذا السفر أو هذا النشيد الجديد أو هذه القصيدة المتعددة المداخل. يرتكز محور الحركة الأولى حول حرف «آ» وهو الحرف الأول من اسم الحبيبة «آن»، ويمثل هذا الحرف منطلقاً للعبة شعرية تتحول إلى ما يشبه الفضاء الرحب الذي تمحي فيه التخوم والذي ينفتح على مصادفات اللغة التعبيرية التي تنحو نحواً ابتهاليا حيناً واسترجاعياً حيناً، متغنية بالغائبة– الحاضرة غناء ملؤه الألم والأسى. لا يلتزم الشاعر في هذا الجزء قواعد البناء اللغوي أو النحوي بل هو يفككه ويفجره جاعلاً منه حالاً من التموج الإيقاعي والصوري الهادر الذي يزيل نقاط الوصل ويدخل الجمل بعضاً ببعض ويمضي في لعبة التقديم والتأخير والحذف ولكن من دون أن يزيل البنية المضمرة للنص وهي التي تحفظ تماسكه الداخلي الغائب. جمع الشاعر بين الحرف الأول لاسم حبيبته وحرف «ف» ليشكل الحرفان معاً كلمة أو فعل «فا» أي «ارحلي». يستهل الشاعر المقطع الأول قائلاً: «أيتها الملكة الصغيرة في الحفرة/ ارحلي/ أيتها الشقيقة الصغيرة المسافرة المعفرة بالوحل/ ارحلي…». وليس فعل الأمر الملطف هنا إلا توكيداً على رحيل الحبيبة نحو بلاد مجهولة لا يمكن تصورها بوضوح: بلاد الخلود أم بلاد العدم؟ حتى الشاعر لا قدرة له على الحسم، لكنه قادر على التوغل في الناحية اللامرئية، متكئاً على حدسه ومخيلته وإحساسه العميق أو الدفين بالماوراء الذي قد يكون هو الخواء أو قد يكون الشغور. ويكاد الشاعر يلمس أن الحبيبة حية بل أشد حياة منه هو الذي يعيش اللحظة المأسوية في كونها لحظته.
الحركة الثانية في القصيدة وعنوانها «رسالة» تبدو أقرب إلى قصيدة النثر وفيها يتداخل صوت الشاعر وصوت الحبيبة الغائبة، لكنه هو المخاطِب هنا أو من يوجه الرسالة محدّثاً الحبيبة وكأنها أمامه. يقول لها مثلاً: «أرجو على رغم كل ما حصل أن يتسنى لنا الوقت كي يتلقى واحدنا أخبار الآخر، حيناً تلو حين. لكنّ الأمر ليس أكيداً، أنت تشكّين به، أليس كذلك؟». هنا تكتسب نبرة الشاعر الكثير من اللطافة لا سيما عندما يلامس الكلام طابع الحنين والشوق المضني.
في الحركة الثالثة أو المقطع الثالث «حيوات» (ترجمته كاملة إلى جانب هذا المقال) يسترجع الشاعر نسيجه اللغوي السابق متفرساً في الموت أو الغياب ومتسائلاً عن جدوى الوجود وغائصاً في معنى الحضور الآخر للحبيبة. فالحيوات التي تتعدد هي الوجوه المتعددة نفسها للحياة التي لم تبق حياة واحدة.
لا يُقرأ ديوان الشاعر فردريك بواييه مجتزءاً أو متقطّعاً، مع أن قراءته هذه متاحة، فهو على اختلاف إيقاع حركاته وموضوعاتها يظل يحافظ على وحدته العضوية والشعرية. حتى الموضوعات التي تحتل باطنه تتصادى وتتراسل تراسلاً حسياً ومفهومياً أو سيمانتيكياً، وما يزيد من قوة تراسلها هو النسيج اللغوي والأسلوبي الذي نجح في صهر أنواع عدة: النشيد، الغناء، السرد، المخاطبة، التأمل الفلسفي، الرؤيوية، الحسي، المجرد… يقول الشاعر في التقديم الصغير للكتاب إن هذه النصوص الحميمة كتبت كتدوينات شخصية في «سواد الفقدان والافتراق»، خلال الأيام التي تلت موت حبيبته. ويضيف قائلاً إنها «ثلاثة نصوص مندفعة إزاء أمر رهيب» وإنها «مرمية في الزمن». لم يستوعب الشاعر هذا الفقدان وظل يردد «لا ليس هذا حقيقياً» أو «لا وقت للموت». وفي أحد المقاطع يستعير لهجة النداء التوراتي: « نادوا أيها المنادون/ لقد ماتت». وعلى لسان الحبيبة يعترف: «كنت تقولين لي انشد واحلم». وكما تحدّث نوفالس عن «النوم الأبدي» لحبيبته «صوفي» في ديوانه البديع «أناشيد إلى الليل» يخاطب الشاعر حبيبته «آن» قائلاً: «أود أن أقول لك نامي جيداً»، وقصده أن تنام هناك، «تحت التراب/ حيث العين ترى/ في الحفرة». فهي لم يبق لديها نوم حي كما يقول، و «لا عالم يضمك/ يستقبلك»، حتى «صمتها لم يبق صمتاً». وإن غنى نوفالس الليل الأبدي، ليل «صوفي» حبيبته التي رحلت باكراً، فالشاعر بواييه يتحدث عن «الأسود اللامع» وعن «الضوء الذي لا يكفي في الأسفل»، ويعترف لها في ما يشبه الاعتراف الأورفي: «أقدر أن أنزل معك لألاقيك»، مدركاً أنه لن يلاقيها إلا في حال من الحضور الغائب وأنه لن ينشد إلا «نشيد المرأة المختفية».
ليس من السهل استعادة الميت لا سيما إذا كان حبيبة، وقد علمنا الشعراء منذ دانتي أن الاستعادة لا تكون إلا ضرباً من التخييل ولكن التخييل الساحر والخلاق. فردريك بواييه استعاد الحبيبة «آن» شعرياً ولغوياً وجعلها في مرتبة الحبيبات اللواتي خلدهن الشعراء على مر العصور.
جريدة الحياة