نحن لا نكاد نعثر لدى كبار الفلاسفة الغربيين على ما يثبت، أو يوحي لنا بأنهم يولون الرواية اهتماما، وإليها يستندون لبلورة أفكارهم ورؤاهم، ولاختراق “ليل المعنى” بحسب تعبير الشاعر اللبناني الكبير صلاح ستيتيه. ولعل الألماني مارتين هايدغر هو الدليل الساطع على ما نقول. فقد كتب صاحب “الكينونة والزمن” عن فنانين وشعراء أمثال هولدرلين، وغيورغ تراكل، وراينار ماريا ريلكه، وفان كوخ نصوصا بديعة.
وعندما زار فرنسا في مطلع الخمسينات من القرن الماضي، لم يلتق بأيّ روائي، بل اكتفى بزيارة الشاعر رنيه شار في مسقط رأسه بجنوب البلاد. وتحت ظلال شجرة الكستناء، حول طاولة عليها الجبن، والخبز الأسود، ونبيذ “البروفانس” تحدثا طويلا عن علاقة الشعر بالفكر التي تعود إلى زمن الإغريق.
والواضح أن نفور هايدغر من الرواية يعود إلى أنه كان مُهْتمّا أساسا بما هو تجريدي، وبما هو نظري، وبما هو جوهري، أي الميتافيزيقا. وبالتالي هو معنيّ بما يتوصل إليه الفكر في تأملاته حول الشؤون الإنسانية، وحول القضايا الوجودية، مُقْصيا السرد والصدفة وكل الوسائل التي يعتمد عليها الروائي في عمله.
لذلك يجد نفسه غير معنيّ بالقصص التي تروي مغامرات وأوهامَ وأحلامَ وخيبات تلك الشخصيات التي ابتكرها الإسباني سارفانتس، أو الفرنسي رابليه، أو ابن بلاده غوته. بل لعله كان يرى أنها لا تكشف “الواقع في جوهره”، بل هي تخفيه، وربما تزينه، أو تشوهه، أو تغيّبه تماما بحسب ما تقتضيه مصائر شخصياتها.
والحقيقة هي أن هايدغر كان مخطئا في تقديراته. فقد تمكن الروائيون الكبار، القدماء والمحدثون، من أن يكشفوا الواقع الإنساني بجميع تفاصيله وتضاريسه، وأن يعبروا عن مأساة الإنسان على الأرض بطرق تتفوق أحيانا على تلك التي يلجأ إليها الفلاسفة، وبها يتشبثون فلا يحيدون عنها أبدا خشية “خيانة الصرامة النظرية”.
وخلافا لفلاسفة الأنوار، والفلاسفة الذين وعدوا الإنسانية بمستقبل مشرق اعتمادا على العقل، وعلى التقدم العلمي والصناعي، أبرز الروائيون الكبار من خلال أعمالهم، المخاطر التي تهددها بسبب الإفراط في ذلك.
وقبل أن يشرع هايدغر، وغيره من الفلاسفة في التساؤل عن أسباب بروز بوادر تدهور الحضارة الغربية، كان روائيون أمثال دستويفسكي، وفلوبير، وتوماس مان، ولوي فرديناد سيلين، وروبرت موزيل، وجيمس جويس، وفرانز كافكا، وكنوت هامسون وآخرون قد كشفوا عن الديدان التي تنخر الجذع تمهيدا لسقوط الشجرة الكبيرة.
لذلك كان ميلان كونديرا على حق عندما أشار إلى أن الروائيين الكبار، مثل بينلوب، زوجة أوليسيس، يخربون في الليل ما صنعه الفلاسفة في النهار، أي يبطلون ما كان هؤلاء يظنون أنها حقائق لا يمكن دحضها، ولا التشكيك فيها. ومعنى هذا أن الروائيين هم أقرب إلى الواقع من الفلاسفة المتحصنين في أبراجهم المزدحمة بالمفاهيم الغامضة، والتهويمات الميتافيزيقية.
وفي رائعته “رجل بلا مواصفات”، كتب روبرت موزيل يقول إن الروائيين يتجنبون جعل فلاسفة شخصيات أساسية في رواياتهم لأن هؤلاء يستغرقون في التأمل والتفكير إلى درجة أن اللحظة التي يمكن أن يحدث فيها شيء مهم، تفلت، وتضيع منهم. أما الروائيون فيترصدون دائما هذه اللحظة، ثم يقبضون عليها لتكون حاضرة بقوة في أعمالهم، ودالة على مصائر الشخصيات التي يبتكرونها.
صحيفة العرب