حال حصول تونس على استقلالها عام 1956، شرع النظام التونسي الجديد بزعامة الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة في رسم صورة لما سُمّي في ذلك الوقت بـ”الشخصية التونسية”.
ولتجسيد هذه الشخصية في الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي، تمّت إعادة الاعتبار لرموز الثقافة التونسية في العصور القديمة والحديثة من أمثال ابن رشيق القيرواني وابن خلدون وأبي القاسم الشابي والطاهر الحداد وسعيد أبي بكر وزين العابدين السنوسي وجماعة “تحت السور” الذين كانوا اول من وضع الأسس الأولى لكتابة القصة الحديثة تحت تأثير الأدب الفرنسي بصفة خاصة إذ أنهم كانوا مغرمين بقصص موباسان وبروسبير ميريمي وبروايات بالزاك وفلوبير…
وفي البرامج المدرسية، أدرجت نصوص هؤلاء الرموز، وسُمّيت مؤسسات ثقافية مهمة بأسمائهم، وبعثت جوائز أدبية احتفاء بهم. في الآن نفسه، وضعت كتب محمود المسعدي الذي كان آنذاك وزيرا للتربية والتعليم ضمن الكتب المعتمدة في امتحان البكالوريا.
ولم يكتف النظام التونسي الجديد بذلك، بل خصص صفحات الملحق الثقافي لجريدة “العمل” الناطقة باسم الحزب الحاكم لأدب الطليعة، سامحا بنشر نصوص وقصائد لشبان لم يكونوا يترددون في انتقاد سياسته في جميع المجلات. ولم ينقطع الملحق المذكور عن الصدور إلاّ بعد أن خرج الطلبة إلى الشوارع في شهر يونيو 1967 للتظاهر ضد سياسة النظام تجاه القضايا العربية، وتجاه القضية الفلسطينية بصفة خاصة، وبرزت للوجود حركات يسارية مناهضة له.
وفي مطلع السبعينات من القرن الماضي، عيّن الراحل محمد مزالي وزيرا للتربية والتعليم لينشغل منذ البداية بتعميق مفهوم” الشخصية التونسية” من خلال مجلة “الفكر” التي كان يشرف عليها منذ نهاية الخمسينات، جاعلا منها منبرا لكل من يبدي استعدادا فكريا وثقافيا وسياسيا للدفاع عنها، وتوطيد دعائمها وأسسها.
بالإضافة إلى ذلك، سُمح لأول مرة بتدريس أعمال قصصية وشعرية في المدارس. وبفضل ذلك، تعرّف التلاميذ التونسيون على كتّاب وشعراء أحياء من أمثال محمد العروسي المطوي ومصطفى الفارسي والميداني بن صالح وحسن نصر والبشير خريف ومحمد صالح الجابري وآخرين.
ولا تزال أعمال هؤلاء مُدْرجة في البرامج المدرسية. لكأن الزمن توقّف عندها، وعندهم فلم يتغير أبدا، ولم يشهد ظهور أدباء وشعراء ونقاد أبدعوا أعمالا مهمة لا على مستوى الأدب التونسي فحسب، بل على مستوى الأدب العربي بصفة عامة. ولا يزال الحفيد يتقدّم لامتحان شهادة البكالوريا بنفس كتب محمود المسعدي تماما مثلما كان حال جده قبل خمسين أو أربعين سنة.
وهو أمر مُخجل ومعيب للغاية إذ أنه يوحي بأن تونس بلد عقيم وفقير على المستوى الأدبي والفكري والفني. ولو كانت الأعمال الأدبية المدرجة في البرامج الدراسية تتمتع بأهمية كبيرة شكلا ومضمونا لهان الأمر. إلا أن البعض منها تشكو من إخلالات كثيرة، لغوية وأسلوبية وغيرها. كما أن الزمن تجاوزها على جميع الأصعدة بحيث لم تعد تثير اهتمام وفضول الأجيال الشابة التي تعيش ثورة الاتصالات والمعلومات. وهي ثورة هائلة لم يسبق لها مثيل في التاريخ البشري.
صجيفة العرب