للفنان زياد الرحباني عمل موسيقي جميل بعنوان «هدوء نسبي». في ظني أن زياد استوحى عنوان عمله من العبارة التي كانت شائعة فترة الحرب الأهلية في لبنان، حيث إنه ألّف العمل في تلك الفترة، وكانت الإذاعات اللبنانية يومها تقدم تقارير يومية عن الحال الأمنية في مناطق الاشتباك التقليدية في تلك الحرب، فحيث تشتد الاشتباكات تحذر الإذاعات المدنيين من الاقتراب من تلك المناطق، وحيث تهدأ هذه الاشتباكات على محاور أخرى تصف الوضع ب«الهدوء النسبي»، وأحياناً ب«الهدوء الحذر»، وهما تعبيران يحملان في ثناياهما الإشارة إلى أن الوضع يمكن أن ينفجر مرة أخرى.
زياد استوحى اسم العمل فقط من هذا، أما الموسيقى التي وضعها فكانت بمثابة دعوة للهرب من الضجيج. دعوة للسفر في النفس، ولكن في حال من الهدوء النسبي فقط، أي أنه الهدوء القلق، المؤقت، وليس السكينة التامة التي تنشدها الروح عادة، لكن تحققه، هو في الغالب، متعذر تحت الضغوط الكثيرة التي يقع الإنسان ضحية لها، فما بالنا بأحوال الناس في بلدٍ يعيش أجواء الحرب؟
حسب تعريف في إحدى الموسوعات العلمية للضجيج noise، قيل إنه «مجموعة الإشارات غير المرغوبة التي تؤثر سلباً في حسن استقبال الإشارة المفيدة. ويُميَّز عادة بين الضجيج الناجم عن التشويش العشوائي والتداخلات الناجمة عن الإشارات الأخرى المفيدة، وقد عُرّف الضجيج على أنه كل ظاهرة صوتية غير مرغوب بها بصرف النظر عن طبيعتها وشدتها».
إذا كان الضجيج كذلك، فماذا عن الهدوء، الحال المقابلة أو النقيض؟
يزعم بعض الباحثين أنهم استخدموا، قبل أعوام قليلة جداً بالمناسبة، أنواعاً مختلفة من الضوضاء والصمت لمراقبة تأثير الصوت في مخ الفئران، وكانت النتائج مدهشة، فعندما تتعرض الفئران لفترة من الصمت تبلغ ساعتين يومياً، فإنها تُطور خلايا جديدة في منطقة الحصين بالمخ، وهي المنطقة المسؤولة عن الذاكرة والمشاعر والتعلم.
دعونا من الفئران. نحن جميعاً نعلم، ومن تجاربنا الفردية، أننا عندما نخلو إلى أنفسنا، نشعر بأن أفكارنا تتداعى بسلاسة أكبر، وتتجمع الأفكار والتداعيات في بؤرة تركيز واحدة، تساعدنا على بلورة مواقفنا أو اتخاذ ما نراه مناسباً من قرارات إزاء مشاكل أو أمور تشغل بالنا.
وحتى لو لم نكن بصدد مثل هذه القرارات، فإن مجرد الركون إلى الهدوء، من أجل الهدوء وحده، يجلب لنا شعوراً بالسكينة والراحة، وليس مهماً أن يكون دماغنا لحظتها نشطاً أو مسترخياً، لكن ينتابنا الإحساس بأنه يعمل بوضوح وتركيز أفضل.
لا غنى لنا عن الآخرين، خاصة الذين نحبهم ويسعدنا قربهم، لكن يمكن للآخرين أن يكونوا جحيماً، إذا ما استعرنا العبارة المتطرفة لجان بول سارتر القائلة: «الآخرون هم الجحيم»، لكن القول الأبلغ هو ذاك الذي كتبه اليوناني كازنتزاكي: «إن الوحدة هي الجو الطبيعي للإنسان». –
جريدة الخليج