وحين نعكس هذا الأمر على النقد الأدبي، والشعر أو السرد، تذهب الذاكرة بنا إلى متلازمة الناقد إحسان عباس، وبدر شاكر السياب والبياتي، فقد كتب عن كل واحد منهما كتاباً مستقلاً، وهما لم يطبعا إلا عملاً أو عملين شعريين، ولكن كتابته شكلت جوازاً للعبور عربياً، ونذكر ما كتبه الدكتور شجاع العاني عن القاص محمد خضير، حيث عُدّت كتابته فاتحة مهمة لانطلاق محمد خضير قاصّاً عراقياً، ومن ثم عربياً، حظي بمباركة نقدية مهمة، ولدينا نموذج آخر، وهو الكتابة عن الجيل كاملاً، فقد كتب حاتم الصكر كتابه «مواجهات الصوت القادم»، وهو كتاب مخصَّص عن الجيل السبعيني في العراق، حيث أخذ نماذج من معظم شعرائه، وكتب عنهم واحداً واحداً، مما شكّل مدخلاً رئيسياً لهؤلاء الشعراء، الذين لم يكتمل عودهم في وقتهم، ولكن كتابة الناقد هي التي أخرجتهم للضوء أو أسهمت بإخراجهم.
وقد سبقه وبالطريقة ذاتها كتاب مشترك لفاضل ثامر وياسين النصير «معالم في الطريق» عن القصص العراقي في جيل الستينات، وهو كتاب عرَّف الوسط الثقافي بأن جيلاً قصصياً قادماً من خلال هذا الكتاب المشترك، وهذا ما فعله علي جعفر العلاق في جمعه لبعض الشعراء وكتابة مقدمة ودراسة طويلة عنهم، وكذلك صنع طراد الكبيسي ومحمد الجزائري، ونقاد آخرون.
إنّ هذه الطريقة في الكتابة هي أشبه بالسنة النقدية التي يشعر النقاد إزاءها بالمسؤولية، فكل جيل يظهر وينتشر ويبدأ بالتشكل، تكون مسؤولية تشذيبه مناطة بالنقاد الذين عليهم أنْ يقولوا كلمة الفصل في اندفاعات الشباب، وهذا ما نفتقد معظمه هذه الأيام.
الطريقة الأخرى التي كانت سائدة هي كتابة المقالات النقدية في الصحف العراقية، وهي ظاهرة مهمة جداً، حيث يتابع النقاد ما يكتبه الشعراء، أو القصاصون، أو الروائيون، فيرون نتاجهم في عيون النقد العراقي، وهو جزء من الاعتراف بهم أولاً، والجزء الآخر الالتفات للمشروع الفني، من خلال التصحيحات الرصينة التي ينبه لها هؤلاء النقاد.
وما زلتُ أذكر المقالة التي كتبها الناقد الراحل عبد الجبار داود البصري عن ديوان الشاعر عماد جبار «وكانت هناك أغانٍ» 1998 على ما أذكر، وقد كان أول ديوان يُطبع بين مجموعتنا الشبابية آنذاك.
إن تلك اللحظة واحدة من اللحظات المهمة بالنسبة لعماد جبار ولنا أيضاً، إنها لحظة اعتراف مختلفة من ناقد كرَّس جل اهتمامه لجيل «الريادة» ونتاجهم، وإذا به يكتب عن شاب لم يطبع إلا عملاً واحداً، وهذا ما فعله الناقد الراحل د. علي جواد الطاهر مع الشاعر وليد الصراف حيث كتب مقالة مهمة، وتبشيرية، بوليد من خلال نصٍّ واحدٍ قرأه له.
وهنا أتذكر جيداً أواسط التسعينات، عندما كان يطبع الشعراء الشباب آنذاك مجموعاتهم الشعرية، بطريقة الاستنساخ، وهي طريقة انتشرت أيام الحصار على العراق في تسعينات القرن الماضي، فما على الشباب إلا أن يطبعوا مجموعاتهم في «مكاتب الاستنساخ»، بطريقة بسيطة، وإلى الآن تحتفظ مكتبتي بعدد لا بأس به من كتب أصدقائي المطبوعة بطريقة الاستنساخ في ذلك الوقت، لأن لها قيمة تاريخية وفنية أيضاً.
أعود إلى الأصدقاء الذين كانوا يطبعون أعمالهم البسيطة من «قصيدة النثر» في الاستنساخ، كانوا ينتظرون بشغف عجيب ما يكتبه الناقد والشاعر خالد علي مصطفى على صفحات جريدة «الثورة»، حيث تكفَّل بمراجعة هذه الأعمال نقدياً، علماً بأنَّ له موقفاً مضاداً في معظم ما كتب عن منجز هؤلاء الشباب، ولكن للأمانة كان الشعراء ينتظرون بلهفة مقالاته! ويتداولونها كمنشور إيماناً منهم بأهمية الكتابة النقدية، وأنه على الرغم من حدة قلمه فإنه كان يفتح لهم بوابة الاعتراف، والدخول لهذا الوسط الصلد في ذلك الوقت.
إنَّ الكتابة من النقاد هي أكثر ما كان يعول عليه الشعراء، لأن الشعراء على ما يبدو لا يكتبون عن بعضهم البعض، بل لا يعترفون ببعضهم، لذلك ينتظر الشعراء كلمة الفصل من النقاد، حتى إن هناك مقولة متداولة هي أقرب إلى الضحك تُروى عن الشاعر خزعل الماجدي، يقول فيها: «إننا أبناء الجيل السبعيني وصلت أعمارنا وتعدت الخمسين عاماً، وما زال الشاعر الستيني حميد سعيد يسمينا بـ(الشعراء الشباب)!»، والشعراء الشباب هي كلمة تصغيرية على ما يبدو ومصادرة للمنجز الذي يكتبه هؤلاء الشعراء، لذلك فعيونهم دائما باتجاه ما يكتبه النقاد لا الشعراء.
أما الآن، فيكاد يختفي ذلك الهاجس، وتنطفئ تلك الشهوة، شهوة المتابعة والكتابة عن كل جديد، وعلى ما يبدو فإن تعدد الصحف والمجلات، كان سبباً مهماً في هذا الاختفاء، لأن الكتابة سابقاً في عدد محدد من الصحف، يضمن لك آلاف القراء والمتابعين، وكذلك الرقابة الحادة، والصارمة، أشبه بالغربال، الذي لا ينشر إلا ما يصمد فيه، بينما هذه الأيام، نجد الصحف التي لا تُعد ولا تُحصى، كما أن «السوشيال ميديا» عوضت كثيراً ثقافة الصحف التقليدية، فتعددت منابع النشر ومنابره، وكل ذلك حوَّل عدداً كبيراً من النقاد إلى التقاعد عن الكتابة، واكتفوا بمراقبة المشهد الذي يظهر لهم فقط دون أن يكلفوا أنفسهم بمتابعة المشهد الثقافي، كما أن شهوة الشعراء في الكتابة عن منجزهم، انطفأت على ما يبدو فلم يعد الشعراء مشغولين كثيراً باعتراف النقاد، والإعلان عنهم، لأن صفحة واحدة في «فيسبوك»، وبإعلان ممول تتكفل بالوصول إلى مئات الآلاف من المتابعين.
السؤال هو، هل ستعوض «اللايكات» والتعليقات السريعة، ما كان يكتبه علي جواد الطاهر وعبد الجبار داود البصري؟