بلا عنوان أو حتى كلمة، بين الأبيض والأسود، بين التكوينات، بين الخطوط، وحتى من بين الأعمال القديمة التي احتضنت الألوان، حضر الإبداع مؤكدا رهافة إحساس عالية- لو أن كلمة الشعر قد صمتت- من دون أي التباس بالأمور، الأزمة السورية مصوّرة ولكن بحرارة وجدان، ليس هذا فقط بل هناك الكثير والكثير مما أثاره الشاعر والفنان التشكيلي نزيه أبو عفش في معرضه الذي تم افتتاحه في المركز الوطني للفنون البصرية في كلية الفنون الجميلة بدمشق. أثناء الافتتاح اكتفى فناننا بالترحيب بالزوار، التعب والضغط النفسي منعه من البوح، واعتذر من الصحافة المحلية والعربية المهتمة، طالبا من الجميع التأمل فيما قدم لأن الريشة وقلم الفحم مع المساحات البيضاء والسوداء كانت كلّها- وهي بحوالى 37عملا، بمجموعتين قديمة وحديثة- أقدر على التعبير بما شعر وفكر، وبما يرى من أمل في المستقبل، نزيه لم يعنون المعرض ولا الأعمال بل ترك التعليق لكل مهتم. وللحديث أكثر عن الفنان التشكيلي وأعماله إليكم المزيد.
من دون أي ادعاء أدبي
تحدث رئيس مجلس إدارة المركز الوطني للفنون البصرية غياث الأخرس عن أهمية المعرض لأنه لشخص يجمع في إنسانيته الشاعر والفنان والعازف، وبالطبع هذا الأمر يزيد من رهافة الحس الفني، متابعا «من الجميل أن تشاهد أعمالا لشاعر يبدع في شعور وإحساس الكلمة، وهو في الوقت نفسه لا يعرض لوحاته كثيرا. أنا شخصيا فوجئت جدا بالأعمال القديمة، وحتى الأعمال الجديدة أدهشتني، لأن لها علاقة وثيقة بما عشناه خلال السنوات الماضية، ولكن من دون أي ادعاء أدبي. كما أحب أن أشير إلى أن هناك خصوصية في التعبير، من خلال القوة والحنان المجتمعين في آن واحد والظاهر في استعماله للمادة السوداء الأخيرة التي تعكس من الضبابية الخفيفة، إلا أنها تعطي عمقاً وغموضاً أكثر، على الرغم من أن المأساة حاضرة، والمميز في الأمر أن المأساة ليست مباشرة، بل يشعر بها المتلقي شيئا فشيئا وبحنو ليس بقسوة، فما يميز الأعمال هو التماهي والاختصار في التفاصيل والتكثيف الأصيل، ما يكسب الأسود والأبيض حضورا ذا أهمية عميقة. أبيضه نور ملون… وأسوده محرض كبير.. وعدد كبير من التفاصيل يجعل المأساة مخرزا في العين. اللون لم ينقص مما قيل، لكن أعطاه بعدا بصريا آخر، وهذا يدل على أصالة التعبير بالأبيض والأسود. هذا إضافة إلى أن تكوينات الفنان متميزة جدا على تنوع الخامات التي يشتغل عليها، وتقنية اللون الواحد تحددها (عصبية) اللحظة من الموضوع الذي أمامه». كما ختم حديثه د. غياث بالإشارة إلى أنّ المعرض الحالي هو من ضمن مجموعة كبيرة ومجدولة من المعارض، التي سيقدمها المركز الوطني للفنون البصرية، وأصبحت جاهزة ومنظمة ضمن خطة حزيران عام 2019، مشددا على أن هذا الأمر نادر ليس فقط في مجالنا العربي بل أيضا في الدول الأوروبية لم يتم.
لا انفصام في شخصياته
من جانبه أبدى الفنان التشكيلي وشاعر الأغنية جورج عشي رأيه في الأعمال المعروضة قائلاً: «أنا بصراحة أجد الفنان نزيه أبو عفش، هو الفنان التشكيلي الوحيد الذي عاش الأزمة بشكل حقيقي، فالأمر باد من خلال تكويناته ووجوهه الحزينة ومن خلال الأبيض والأسود. هذا ومن جهة أخرى لا يوجد لديه انفصام شخصية، بالشعر أو بالرسم، بل هو شخص واحد في كل أعماله وفي المجالين، فما يرسمه هو ما يكتبه نفسه، وهو التوهج الداخلي نفسه بالمجالين، لكن تختلف فقط وسيلة التعبير. وبالعودة إلى الأعمال، فالمأساة السورية كرسها بالأعمال بشكل رائع، كما قام بتسجيل التاريخ بالتكوينات بطريقة وجدانية حساسة ودقيقة، ولكن بطريقة فنية وتشكيلية، حتى إنّ قوة التأثير باللونين الأسود والأبيض تعطي المتلقي الفرصة كي يكون أقرب من الفنان وهو الآخر يستخدم خياله ويقوم بالتلوين بغير ألوان».
فنان بلا التباسات
على حين تحدث الناقد التشكيلي سعد القاسم عن جوانب شخصية وفنية يتمتع بها الفنان والشاعر نزيه أبو عفش، قائلاً: «بالعادة نلاحظ في أعمال نزيه أبو عفش تنوعاً لونياً واضحاً، وحتى هذا الأمر ممتد إلى ما قبل الأزمة، فالفنان واضح بالألوان، ولا يوجد لديه أي شيء ملتبس، وهذا الأمر نجده أيضا في أشعاره أو حتى في مواقفه التي أصبح الكل يعرفها، وربما لهذا الأمر اختار الفنان في مجموعة لوحاته الجديدة الأبيض والأسود، وكأنه يشير إلى أنه لا مجال للرماديات، ونحن لسنا أمام مساحة ملتبسة، بل إن الأمور بالنسبة له كانت وما زالت واضحة. ومن جهة ثانية كثيرون يعرفون نزيه أبو عفش كصاحب واحدة من أهم التجارب الشعرية في العربية، والأقل منهم من يعرف فيه جانب الفنان التشكيلي، رغم أنه يمتد بعيداً في عمق تجربته الإبداعية، والمعرض يتيح رؤية ذلك الجانب، أو على حد تعبير رئيس مجلس إدارة المركز الفنان غياث الأخرس: رؤية التجربة التشكيلية لشاعر هو باقتدار واحد من شعراء «كانوا رسامين مدهشين ومختلفين ومميزين عن أقرانهم انطلاقاً من جمعهم لمواهب مختلفة». وقد لا يكون مهماً هنا البحث عن نقاط الالتقاء والتباين بين التجربتين الشعرية والتشكيلية لنزيه أبو عفش بقدر البحث عن خصوصية كل منهما رغم أنهما تنبعان من المبدع ذاته، وربما تتناوبان في تقديم حالات إنسانية يتجاور فيها السخط مع التأمل، والأرجح أن الأول كان بفعل الثاني».
الأسود البهي النضر
في البروشور الذي تم تقديمه للزائرين كان للفنان بسام كوسا كلمته في الفنان «هل تستطيع أن ترى الأزرق في الكأس الأسود؟ وأن ترى لون الأرجوان في الوردة السوداء؟. وترى الحزن الشفيف الأبيض في الخطوط السود لوجوه متعبة؟ نزيه حمل بكفيه حفنة خرز ملون ونثرها فوق.. فوق جدا، ليلتقط اللحظة الحلم ويقدمها لنا مساحة روح. وأجساداً متعبة ملتصقة ببعضها، مشكلة كومة حنان وألم، وعيوناً تشي بالهلع وكسر الخاطر مما أتى وما قد يأتي. وحوّل الأحمر، والسيكلما، والبرتقالي الصارخ، والأصفر الحلو، والأزرق، واللازوردي، والأخضر الفستقي، إلى لون سيد واحد. إلى الأمير العبقري الأنيق، فارس الألوان، شاغل الدنيا ومالئ الأرواح… سيدنا الأسود البهي النضر».
أيقونات من نور
على حين جاءت كلمة عضو مجلس أمناء المركز الوطني للفنون البصرية بديع صنيج ومنها اخترنا لكم «هنا تتبدى يومياته الناقصة، والربيع الذي مضى ككائنات من روح الألم، وكي لا تقام لها تماثيل التكريم المر، فإن نزيه يمرّر خطوطه عليها، ويؤشطرها كجزء من بحثه المستمر في ذاكرة العناصر، وسعيه الدائم لتخليدها، باختيارات مشبعة بالحساسية على صعيد التكوين الكلي وملء تشظي الكائن بضوء الشعر، فكأنه يرسم قصائده وشخوص يومياته، ولذا لا تستطيع أن تفصل بين ما يكتبه صاحب (الله قريب من قلبي) وبين ما يرسمه، ففي كلتا الحالتين هو ثاقب الرؤيا، وفريد في روحانية وصدق ما يشتغل، ومولع دائما بتقشير طبقات الألم والظلمة، بغية الوصول إلى جوهر النور والسلام والسكينة، ولو كان ذلك بأسر البياض الناصع داخل خطوط سوداء تشع بهاء».
جريدة الوطن