في سن الثامنة والثلاثين رحل الشاعر الفرنسي غيّوم أبولينير بالإنفلونزا. ميتة رعناء لجندي تطوع للقتال في الحرب العالمية الأولى وجُرح فيها. أصابته شظية في صدغه وثقب الأطباء جمجمته لاستخراجها. وكانت القيادة في باريس قد رفضت تطوعه لأنه إيطالي المولد، بولوني الأصل، من أتباع الإمبراطورية الروسية. لكنه نزل جنوباً إلى نيس وتقدم بطلب جديد فقبلوا تطوعه. ومن جبهة القتال بعث الشاعر برسائل ملتهبة لحبيبته لو. وهناك، وهو في الخندق، صدر قرار يفيد بمنح الجنسية الفرنسية إلى غيّوم ألبيرتو فلاديميرو أليساندرو أبولينير دي كوستروفيزكي. لكن الشاعر الفرنسي الأهم في بدايات القرن العشرين مات قبل إعلان الهدنة بيومين. 48 ساعة قبل وقف إطلاق النار. واتخذت القيادة قراراً باعتباره «من الشهداء».
اليوم يكون قد مرّ 100 عام على تلك الحرب التي شارك فيها 68 مليون مقاتل من الطرفين، وذهب ضحيتها 9 ملايين من القتلى و21 مليوناً من الجرحى و8 ملايين مفقود. وكان بينهم أفارقة ومغاربة على الجبهات الفرنسية، ومشارقة على جبهة القوقاز، ضاعت دماؤهم في نزاع لا ناقة لهم فيه ولا دجاجة. وبعدها تمزقت خريطة العرب ورسمت حدود بالمسطرة والفرجال. وأمس عرض التلفزيون الفرنسي تحقيقاً عن آلاف الأسرى الفرنسيين الذين عادوا بعد أن تقطعت أخبارهم عن أهاليهم، ووجدوا زوجاتهم يربين أطفالاً ولدوا من غير صلبهم. كانوا قد ذهبوا إلى الجبهات وهم يصفرون لحناً حماسياً ويضعون أزهاراً في فوهات البنادق. تصوّروها نزهة تنتهي سريعاً لكنها طحنتهم طوال سنوات قبل أن «تضع الحرب أوزارها». ما أشطر المتأدبين في انتقاء أوصاف أنيقة للفاجعة!
للاحتفاء بمئوية الهدنة، وصل 70 رئيس دولة وحكومة إلى باريس. عدو الأمس يصافح صديق اليوم، وسليل العثمانيين يجلس بجانب حفيد العم سام. يداري بوتين وترمب وإردوغان أنيابهم ويتبادلون ابتسامات الليوث. وفي المتحف العسكري يحتفظ الفرنسيون ببوق بسيط دخل التاريخ. إنه الآلة التي عزف عليها العريف بيير سيلييه، في الثامنة والنصف من مساء 7 نوفمبر (تشرين الثاني) 1918 اللحن الذي أعلن وقف القتال. وفي السنة التالية تسرّح الجندي من الخدمة وعاد إلى قريته، شرق البلاد. وهناك تلقى دعوة من جمعية قدامى المحاربين في الجيش الأميركي لكي يقوم بجولة في الولايات المتحدة ويعزف على بوقه بمرافقة عازف ألماني. واعتذر العريف قائلاً إن جراح الحرب لم تندمل بعد. فعاد الأميركان وعرضوا عليه شراء البوق مقابل مبلغ طيب. لكنه رفض وفضّل إهداءه إلى المتحف العسكري الفرنسي.
في تلك السنوات ذاتها، تنادى رفاق الشاعر أبولينير لجمع مبلغ يسمح ببناء شاهدة منحوتة من البرونز على قبره في باريس. باع 65 فناناً أعمالاً لهم بالمزاد وجمعوا 30 ألف فرنك. وتقدم بيكاسو بأربعة نماذج مقترحة للضريح لكن الرفاق رفضوها كلها. وفي النهاية وافقوا على تصميم لرسام مغمور جرى تنفيذه من الغرانيت. وهو ما زال قائماً عند المكان الذي يرقد فيه الشاعر، في المربع رقم 86 من مقبرة «بير لاشيز». شظايا على شكل قلب، باللونين الأبيض والأخضر، وتحتها عبارة: «قلبي مثل لهب مقلوب».
ينصرف الشاعر وتبقى أشعاره تعطّر المناهج المدرسية ويوميات قرائه. قال إنه مات مبتسماً لأنه «وزن عدة مرات الحياة المتأرجحة». تنتهي حروب وتشتعل غيرها. لا يتعلم أحد الدرس الفادح. يحتفلون بالهدنة وأيديهم على الزناد والشفرة النووية. وتبقى القصائد تشهد للقتلى وللناجين، ومعها بوق نحاسي في واجهة زجاجية لمتحف يزوره السياح.
جريدة الشرق الاوسط