ما الذي يخشاه مؤلفو الروايات حين يُصدِّرون رواياتهم بجمل أو عبارات من نوع: «إن الأشخاص والوقائع الواردة في الرواية هي من نسج الخيال». كأنهم يُحذّرون القراء من أن يبحثوا عن نظائر للشخصيات الواردة في الرواية في الحياة الواقعية، خاصة إذا كان هؤلاء القراء يعرفون سيرة الكاتب أو قرأوا وسمعوا عنها، فيتقصون من في محيطه من أقارب أو معارف أو زملاء، يمكن أن تنطبق عليهم سمات وتصرفات الشخصيات الواردة في الرواية المعنية.
ورغم هذه التحذيرات التي يرسلها الكُتّاب، فإن القراء في الغالب الأعم لا يأخذونها مأخذ الجد، ويُمعنون في «تجليس» ما هو وارد في الرواية على الشخصيات والوقائع النظيرة التي في الواقع، حتى لو غيّر الروائي أسماء الشخصيات، أو حرّف في الوقائع أو انزاح بها قليلاً أو كثيراً عما جرت عليه في الواقع.
أكثر من ذلك، فإن التنبيه أو التحذير الذي يستهل به الكاتب روايته بأن كل ما فيها ما هو إلا نسج خيال، يفهمان على عكس مقصدهما، فيتحولان إلى باعث لتحريك الفضول لدى المتلقي، انطلاقاً من شعور غامض ينتابنا حين نقرأ هذه التحذيرات عن السبب أو الأسباب التي حملت الكاتب على أن يصرف أنظار القراء عن التفكير في أن فلاناً من شخصيات الرواية، هو نفسه فلان في الواقع.
كُثُر هم الروائيون والنقاد الذين يؤكدون أنه ما من رواية تخلو من بعض أوجه السيرة الذاتية للكاتب، وليس صحيحاً أن كل ما في الروايات هو محض خيال، فمهما استعان الكاتب فعلاً بخياله في ابتكار تفاصيل أو أحداث أو سمات مختلفة عما في مخزونه من الذكريات والمعاينات الواقعية، فإن نواة الكتابة تنطلق من الواقع، ومن التجربة الحياتية للكاتب نفسه.
ولا يحضرني الآن اسم الروائي العالمي الذي أفاد في إحدى شهاداته، بأن كل شخصية روائية لديه هي مزيج من عدة شخصيات واقعية، وأنه يقوم بما يشبه المونتاج حين يبني شخصيته الروائية، فيمنحها أجزاء مختلفة متناثرة من شخصيات عرفها في الواقع، وفي النتيجة نكون إزاء شخصيات جديدة تشبه ما في الواقع ولا تشبهه في الآن نفسه.
نعود للسؤال: ما الذي يخشاه الروائي في أن يقال إن فلاناً في الرواية هو نفسه فلان في الواقع؟ من الصعب إعطاء إجابة قاطعة على سؤال مثل هذا، ربما لأنها لا توجد، وقد يكون بينها رغبة الكاتب في إخفاء حقيقة أنه لم يبتكر شخصيات، وإنما حكى سيرة أفراد يعرفهم في الواقع، لكن المؤكد فيما نرى أن الكثير من الكتاب يلجأون إلى الرواية لتفادي قول سيرهم الذاتية؛ لما ينطوي عليه مثل هذا القول من أوجه إحراج، ولما يتطلبه من شجاعة فائقة في البوح دون تردد بوقائع يستهجنها المجتمع عادة، أو تحمل شيئاً من الإساءة إلى أصحابها، لذلك «يتستر» الكاتب بالرواية لتفادي كل هذا؛ لأنه مهما كانت مقادير التشابه بين الواقعي والمكتوب في الرواية، فإن الناس سينظرون للرواية على أنها في نهاية المطاف أدب وليست توثيقاً لحيوات ووقائع يعرفونها.
جريدة الخليج