يحلّق جنس الرواية طائراً خرافياً مهيباً مرفرفاً بجناحيه حول العالم. وإذا كانت الرواية قد تنفست حضورها الاجتماعي الأول بتداولها بين القراء في بداية القرن الثامن عشر، فإن هذا الجنس الأدبي مسَّ بسحره ملايين البشر، وغدا معشوقهم، وبالتالي تبوّأ مكاناً وساحة كبيرين وشاسعين، وأخذ صيتاً مدوياً ما زال يزداد يوما إثر يوم. وأعتقد أن هذا ما كان يمكن أن يحصل لجنس الرواية لولا أنها استطاعت أن تكون مرآة العصر، منذ ولادتها.
نعم، الرواية مرآة العصر، ومؤكد أن مردّ ذلك يرجع إلى كون الشكل الروائي متحللاً وعصياً تماماً على أي تأطير أو توصيف أو مدرسة أو قاعدة.
فالرواية مغامرة كتابة نثرية، بعيدة كل البعد عن الخضوع لأي قالب، أو أي توجّه. وهي، إلى جانب ذلك، تتصف بانفتاحها على كل موهبة إنسانية، لا تبالي بعمر صاحبها، ولا مكانه، ولا جنسيته، ولا لونه، ولا معتقده.
الرواية تمنح روحها بسهولة وطوع عجيبين لكل من يطرق بابها إن كان يريد صحبتها قارئاً، ويختلف الأمر إن كان يريد السير في دربها كاتباً مؤلِّفاً، وقتها ستكون متمنعة وعصية على القياد في الكتابة، إلا لمن جاءها متسلحاً بموهبة فذة، وجبال قراءات شكّلت وجدانه ووعيه وموقفه من الإنسان وقضاياه.
بالإضافة إلى إرادة قوية وجَلَد بالارتهان إلى مغامرة وعالَم الكتابة. وهو بذلك يمتلك مفاتيح مصاحبتها، والسير يداً بيد معها فوق أرض دروبها الزلقة. فكتابة الرواية سهلة ممتنعة بامتياز.
الرواية مرآة العصر، لأنها وحدها، ودوناً عن أي جنس إبداعي أدبي آخر، تستطيع بقدرة لافتة أن تؤرّخ، عبر الكتابة الإبداعية، لعوالم وصراعات وحياة اللحظة الإنسانية العابرة التي يكتبها المؤلف.
كما تسمّر هذه اللحظة على مشجب الزمن، كي تبقى شهادة صارخة وصادقة على مختلف نواحي الحياة الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية، لذلك المجتمع الذي تناوله الروائي بكتابته.
الرواية مرآة العصر، لأن موضوعها الأساسي هو الإنسان بحياته ووجوده وحتى موته. وهي في جميع رصيدها الإبداعي المكتوب والباقي عبر التاريخ والزمن، كانت مرآة للمعاناة والقضايا البشرية.
وكانت دائماً أقرب إلى الهم الإنساني بعمومه وديمومته، ولذا فهي تنصف حق الإنسان في وجه ما عداه، وترفع من شأن الإنسان في المطلق، ولأنها كذلك فإنها مرآة صادقة وصافية وعاكسة بوضوح وصدق لبشر وروح كل عصر.
الرواية مرآة العصر، عصرنا الحالي، لأنها صارت حلماً طازجاً مشاغباً حلواً، للكاتب والناشر والقارئ والمنتج التلفزيوني والإذاعي والسينمائي، وأخيراً للجوائز صغيرها وكبيرها. وهي لأنها كذلك، صارت سوقاً كبيرة وتجارة رائجة حول العالم. وإذا كان البعض يرى أن ذلك تسبب في موجة من الكتابات الروائية الهابطة، فإن هذه الموجة نفسها أفرزت كتابات مبدعة وجميلة، كما أخذت وألهت آلاف الشباب عن الضياع والمنحدرات، وسافرت بهم إلى عوالمها، مؤكد أنها سحرتهم حتى أنهم باتوا لا يستطيعون الخروج من عباءتها، وهم لا يحلمون بغير التمتع والطيران في منطادها الكبير.
للبعض آراء، سواء كانوا كتّابا أو قرّاء أو مؤسسات بحثية أدبية، بقرب موت الرواية، وأن عمرها بات رهنا للعقدين القادمين. ويدللون على ذلك بالنظر إلى انتشار مواقع الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، والكتاب الإلكتروني، والتلفون النقال الذكي. لكنني مع الرأي الآخر، الذي يرى أن عمر الرواية أطول بكثير من عشرين أو مئة سنة أو يزيد، فهي باقية بقاء الإنسان.
وأنا هنا أتكلم عن الروايات الإنسانية المبدعة، التي شكّلت وتشكل ضمير وحياة الإنسان. هذه الروايات باقية بقاء الإنسان، لأنها تعينه على الحياة، وما أكثر حاجة الإنسان وأبقاها إلى المعونة في زمنٍ قاس ومتوحش ومضطرب، وسيبقى!
جريدة الجريدة