لو نظرنا للبرامج الإعلامية التي تتعامل مع الثقافة والفنون كإبداع: شعر، سرد، مسرح، سينما، تشكيل.. إلخ، سنلاحظ غلبة الطابع التقريري، حيث يجري الاكتفاء بالتغطية الإخبارية العجلى والمبتسرة وغير الدقيقة في أحايين كثيرة، للفعاليات الثقافية، حيث تغيب المعالجات الإبداعية والخلّاقة، التي تجمع بين غنى المحتوى وجاذبية الشكل.
يقودنا هذا إلى طرح مسألة غياب الكوادر المثقفة في الكثير من أجهزتنا الإعلامية على المستويات الوطنية الخاصة بكل بلد عربي على حدة، أو على المستوى العربي العام. ونحن هنا لا نعمم، فبالتأكيد هناك استثناءات جديرة بالثناء على ما يقوم به أصحابها من جهد، ولكننا نتحدث عن الحال العامة، الغالبة، حيث تسود السطحية والضحالة.
المثقف الجاد هو بالضرورة صاحب نزعة نقدية، والمقصود أنه يمتلك من العدة والمعرفة ما يؤهله لأن يُقيّم الظواهر برؤية بانورامية شاملة، وليس من عادة الأجهزة الإعلامية الرسمية التي تتوخى السريع والخفيف أن نقبل بمثل هذا المثقف، وإن قبلت به فإنها تشترط عليه، أولاً، تقليم أظافره كي لا تخدش، فتكون العاقبة أن يتصدر المنابر الثقافية وشاشات التلفزيون الأدعياء وأشباه المثقفين والباحثين عن الوجاهة وحب الظهور، وغير المعنيين بقلق المعرفة وحيرة الأسئلة، لأن ذلك يتطلب جهداً ومثابرةً ووعياً، وكلها أمور غير متوفرة لمثل هؤلاء.
هذا الأمر يفصح عن العلاقة غير السوية بين المثقف والإعلامي، وبالتالي بين المؤسسات الثقافية والمؤسسات الإعلامية، فالإعلامي يريد أن يلعب دور القائد والمُوجه، وبالتالي فإنه يرغب في أن يرى المثقف تابعاً له، خاضعاً لشروطه، لا نداً له.
ولعل أبلغ تشبيه للفرق بين الاثنين هو ذاك الذي أورده د. مصطفى المصمودي حين قال في كتابه «النظام الإعلامي الجديد»: «إذا كانت أجهزة الثقافة بمنزلة الحرفي التقليدي كالنجّار والحدّاد والنقاّش، يسعى إلى الكيف أكثر من الكم، فإن أجهزة الإعلام تكون أشبه بالآلة الصانعة التي لا تعتبر إلا الكم، انطلاقاً من نموذج قياس مُوحد».
ولأن التوفيق بين الأمرين مستعصٍ، فإننا نصبح إزاء أمرين كلاهما مُرّ: إما أن يجري ترويض المثقف ليخضع لشروط الأجهزة الإعلامية، وكم خسرت الثقافة من المبدعين الذين ابتلعتهم المؤسسات الإعلامية وصيّرتهم «بُرغياً» في ترسها السريع الذي لا يتوقف عن الدوران، وإما أن يتفاقم الخصام بين الطرفين وتزداد الفجوة، وحتى القطيعة، بينهما، فيما المطلوب أن يكون الإعلام، إضافة إلى وظائفه الكثيرة الأخرى التي لا نجادل في مشروعيتها، وفي أحقيته بأن يقوم بها، حاملاً وناشراً للثقافة، لكن بشروط هذه الثقافة، وبما يلائم طبيعتها ودورها ورسالتها، لا بشروط الإعلام ومتطلباته.
قد يسأل سائل: أليس من منطقة وسطى على الجانبين بلوغها من أجل تفادي كل هذه المحاذير؟ جوابنا ينحصر في القول إن تحقيق ذلك يتطلب بدوره عقولاً خلاقة، مبدعة، ومثل هذه العقول سيجدها من يبحث عنها.
جريدة الخليج