بين ثمانية ملايين قطعة من آثار العالم وتحفه، يُمثّل بعضها مليوني عام من تاريخ البشرية، تنهض قاعة «الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان لأوروبا والشرق الأوسط» في المتحف البريطاني التي دشّنها سمو الشيخ عبدالله بن زايد، وزير الخارجية والتعاون الدولي، الخميس الماضي، وقد تشرفتُ بحضور الحدث في لندن، ضمن وفد إماراتي، رفيع المستوى، ولمسنا جميعاً المكانة الاستثنائية لدولة الإمارات، ومؤسسها، طيب الله ثراه.
هذا حدث ثقافي كبير، وله أبعاد حضارية وإنسانية عدة، فالمتحف العريق الذي تأسّس في العام 1753، يقدر الأثر العميق الذي تركه الشيخ زايد في التواصل بين الثقافات والشعوب، ويطلق اسمه على أبرز قاعاته التي تُؤرخ بداية الزراعة في أوروبا، قبل نحو ستة آلاف عام، وتعرض ملامح متنوعة من حياة الأوروبيين، آنذاك، ومن المؤمّل أن يشجع ذلك حركة البحث في سيرة الراحل الكبير، بصفته شخصية عالمية، ساهمت في حماية التراث الإنساني، وصيانته من الاندثار، وذلك قبل نحو خمسين عاماً عندما افتتح متحف العين، وأطلق حملات التنقيب عن الآثار، وجذور الحضارات في الإمارات.
يُتيح المتحف البريطاني بهذه الخطوة أيضاً التفاتة المؤسسات البحثية الدولية إلى الإمارات، بفضل الشيخ زايد، فعلى أرضنا ينتشر ميراث الحضارات من العصور الحجرية والبرونزية والحديدية والهلنستية، وغيرها، وقد كنّا، وما زلنا، نقطة تجارية جاذبة ورئيسة بين قارات العالم، ما جعلنا من أكثر بلدان الشرق الأوسط استيطاناً من الأمم السالفة، عبر الأزمان.
الالتفاتة البريطانية إلى «أوروبا والشرق الأوسط» في تسمية القاعة أكثر من تنويه بشخصية الشيخ زايد، وبعدِ نظرهِ في فتح قنوات الحوار والتقارب مع جوار العرب في الجغرافية والتاريخ، فالأوروبيون شهدوا العقود التي كان فيها زايد من أبرز دعاة السلام والتسامح والاعتدال رؤيةً وموقفاً، ويعرفون كيف قاد مشروعاً ناجزاً ومتميزاً في الشرق الأوسط في الوحدة والتنمية والازدهار.
فالسمعة الدولية الإماراتية المرموقة التي نشرتها وعمّقتها قيادتنا في العقود الماضية، بنهجها العقلاني المستنير، وخطابها السياسي المعتدل والحصيف، حظيت بعمل دبلوماسي دؤوب، وجهد مخلص من المؤسسات الثقافية التي تعرف أن لدينا منتجاً حضارياً من التراث المادي، وغير المادي، نستطيع أن نسهم من خلاله في النهضة البشرية، فكان أن بادر المتحف البريطاني إلى تقديم الشيخ زايد إلى العالم، مثمّناً حكمته وإدراكه لأهمية القواسم المشتركة بين البشر.
يحدث ذلك، والإمارات تعيش نهضة ثقافية شاملة، أبرز مظاهرها قيادة عمل مؤسسي عربي ضخم لتشجيع القراءة لدى الأجيال الجديدة، والنماء المستمر في حركة النشر والترجمة، عبر معارض الكتب والمهرجانات المتواصلة طوال العام، علاوةً على تنويع المنتج الثقافي، والتجسير بين السياحة والمعرفة في عشرات المشاريع والمبادرات في الدولة التي فتحت «اللوفر أبوظبي» أمام تاريخ الفن، وأيقوناته الخالدة، ليتجاور مع متاحف محلية، تروي سيرة الإمارات ونهوضها في المنطقة والعالم، كما هو الحال في «متحف الاتحاد» في دبي الذي يؤرخ عطاء الآباء المؤسسين، ويلهمنا جميعاً السير على خطاهم.
تدشين قاعة الشيخ زايد في المتحف البريطاني، تزامن مع إعلان دائرة الثقافة والسياحة-أبوظبي، اكتشاف آثار إسلامية، تعود إلى العصر العباسي، تتكون من أفلاج ومبانٍ ومسجد، قرب مسجد الشيخ خليفة في العين، ولا يزال حضور الإمارات في التاريخ الإنساني، واعداً بمزيد من الاكتشافات والمعرفة.
جريدة الاتحاد