كانت خاتمة الموسم الماضي (1978-2018) بكلمة وداع حزينة، ألقاها مؤسس «أصيلة» محمد بن عيسى، أفاض فيها متذكراً لأربعين موسماً. كان المؤسس عند التَّأسيس على أبواب الأربعين، وقد تعدى الآن الثَّمانين بعامين، وما زال بالحيوية نفسها، يحتفي مستقبلاً ومودعاً، ومتابعاً للكبيرة والصغيرة مِن مفردات الموسم.
لم يُعد الأوائل من المساهمين أحياءً إلا القليل، ومنهم مَن أعاقه العُمر عن الحضور، أدباء وشُعراء وفنانين وباحثين، ومِن النَّادر أن يتجاوز موسم ثقافي غير رسمي الأربعين، ويبقى على قيد الحياة وبالألق نفسه. أشار ابن عيسى في كلمته إلى أن أربعة عقود لا تبدو كافية ففي العُمر بقية، لكن الظُّروف قد لا تسمح بتجاوز العتبة، وأخذ الحديث يتداول عن نهاية موسم أصيلة، وتوقفه عند الأربعين.
غير أن محمد بن عيسى، على الرَّغم مِن الثَّمانين التي قضى نصفها في رعاية موسم أصيلة، لم يستكن ويهدأ له بال، فماذا ستكون أصيلة المدينة نفسها، وهو رئيس بلديتها، بعد تعطيل موسمها الذي جلب إليها ثقافة الشَّرق والغرب، وتنوع الحضور مع تنوع الأنشطة: أدب ورسم حيّ على الجدران، مع مشغل فني مفتوح، ونحت وحفر، وموسيقى، والخاتمة بقضية مِن قضايا المنطقة الكبرى، وهذا العام كانت «الدِّيمقراطية»، والسُّؤال: «عبء الدِّيمقراطية الثَّقيل.. كيف الخلاص»؟!
لم تُعطل أصيلة موسمها، وهذا هو العام الأول بعد الأربعين، بدعم محبي الثقافة والفاعلين فيها، مِن الجهات الرَّسمية المغربية وغير الرَّسمية. كانت كآبة خطبة الوداع العام الماضي غير انشراح خطبة الافتتاح لهذا العام. فلم يعد موسم أصيلة مغربياً ولا عربياً ولا أفريقياً، فالحضور جاء متنوعاً مِن أميركا اللاتينية والصين والهند واليابان وأوروبا، حيث اختلاط الثقافات واختلاط الشُّعوب، لهذا نجد حرصاً عاماً على استمرارها، بعد تحصينها مِن التَّرهل والتَّكرار، وحتى هذه اللَّحظة نرى فيها كل جديد، أن تمارس الثَّقافة لشهر كامل، يكون المكان والزَّمان خالياً مِن العِراك العقائدي، فصاحب العقيدة يعتبر سلفاً أن عقيدته فرقة النَّاجية، معصومة لا تقبل الخطأ.
في قضية الدِّيمقراطية، كان عنوان النَّدوة صريحاً، وسؤال وجوابه، نعم أنها عبء ومشكلة كبرى، في بيئة لا تعترف بها مِن الأساس، حتى صارت مادةً للسخرية، في أكثر مِن تجربة لها. كيف تحول رؤساء، مِن ديكتاتوريين إلى ديمقراطيين بغمضة عين.
كذلك بعد أن عدَّ الإسلام السِّياسي الدِّيمقراطية «كافرةً»، فاجأتنا الأحزاب الدِّينية بحرصها على الديمقراطية، مع شرط «الحاكمية الإلهية» بطريقة ما! يتقدم شيخ عشيرة، لا يؤمن إلا بتقاليده العشائرية وزعامته، قائمة انتخابية! يتصدر رجل دين كيان انتخابي، ودعايته مِن على منبر المسجد! كلُّ هذه القوى تجعل مِن الديمقراطية عبئاً ثقيلاً، لأنها تنتج نظاماً مشوهاً، فإذا كان الدّيكتاتور يوفر الأمن والاستقرار النّسبي، أي بما يُحقق حفظ سلطته، فالدِّيمقراطية المشوهة تنتج دكتاتوريات ببلد واحد، ونظاماً فاسداً، يجد استمراريته بكذبة الدِّيمقراطية نفسها.
يوجد تأثير كبير للتاريخ على النِّظام السياسي، فقد عاشت منطقتنا بالذات تحت أنظمة جمعت بين الدِّين والقبيلة، وكلاهما، عندما يتدخلان في السياسة لا يقران الحريات الاجتماعية، أي يهيمنان على المجتمع، ولا يمكن تحقيق ديمقراطية سياسية مِن دون ديمقراطية اجتماعية.
صحيح أن الدِّيمقراطية الغربية تدرجت حتى نضجت عبر السنين، لكنَّ ذلك لم يحصل إلا عبر مقدمات تنويرية، راح في سبيلها العديد مِن المثقفين ضحايا، وحصل تشارك بين المثقف والحاكم في التهيئة لتطبيق الدِّيمقراطية، تجاوزت فترتها عدة قرون (انظر: تاريخ التسامح في عصر الإصلاح). ساعد ذلك وجود حريات اجتماعية مِن الأساس، بينما انطفأت محاولات التَّنوير بمنطقتنا، فالعلاقات العشائرية والتَّقاليد الاجتماعية، باقية نفسها منذ قرون، بل تعرضت مجتمعاتنا إلى انقلابات وهزات.
فهل مِن المعقول أن مجتمعاً عاش تحت وطأة الدكتاتورية يصبح على غرة ممارساً للدِّيمقراطية يحتكم إلى صناديق الانتخاب مِن دون تهيئة ولو لأعوام؟! حتى أسفر الحال عن حروب وكوارث، وجماعات إرهابية، ستعاني منها الشُّعوب لعشرات السنين. كيف لبلد عاش ظروف الديكتاتورية والحروب والحصارات، أن يفتح له الغزو الأجنبي باباً للديمقراطية بلا مقدمات؟!
نعود إلى موسم أصيلة، وديمومة الاستمرار، فالعديد مِن المواسم والمراكز تعتمد على شخص واحد، فلولا هذا المؤسس والمُحتضن ما كان يولد الموسم ولا المركز ولا المؤسسة. إنه أسلوب معمول به بمغربنا ومشرقنا، وعندما يخذل صاحبه الجسد يبدأ المشروع بالتصدع والعجز أيضاً. لكنَّ موسماً عَبْرَ الأربعين عاماً وسيواصل، كموسم أصيلة، لابد مِن التَّفكير بما بعد الأربعين، وما عرفناه أن هناك مؤسسةً تتولى المهمة، فجزء كبير مِن حياة المدينة صار متعلقاً بحياة الموسم نفسه.
إنها إشارة لأصحاب مشاريع ثقافية وبحثية، مِن غير أَصيلة، مِن ذوات الحضور الواسع، السُّنون تجري بسرعة، فلابد مِن التَّفكير بالاستمرارية، عبر المؤسسة لا الفرد، كي لا تشيخ المؤسسة وتعجز بشيخوخة صاحبها الأول!
جريدة الاتحاد
لم يُعد الأوائل من المساهمين أحياءً إلا القليل، ومنهم مَن أعاقه العُمر عن الحضور، أدباء وشُعراء وفنانين وباحثين، ومِن النَّادر أن يتجاوز موسم ثقافي غير رسمي الأربعين، ويبقى على قيد الحياة وبالألق نفسه. أشار ابن عيسى في كلمته إلى أن أربعة عقود لا تبدو كافية ففي العُمر بقية، لكن الظُّروف قد لا تسمح بتجاوز العتبة، وأخذ الحديث يتداول عن نهاية موسم أصيلة، وتوقفه عند الأربعين.
غير أن محمد بن عيسى، على الرَّغم مِن الثَّمانين التي قضى نصفها في رعاية موسم أصيلة، لم يستكن ويهدأ له بال، فماذا ستكون أصيلة المدينة نفسها، وهو رئيس بلديتها، بعد تعطيل موسمها الذي جلب إليها ثقافة الشَّرق والغرب، وتنوع الحضور مع تنوع الأنشطة: أدب ورسم حيّ على الجدران، مع مشغل فني مفتوح، ونحت وحفر، وموسيقى، والخاتمة بقضية مِن قضايا المنطقة الكبرى، وهذا العام كانت «الدِّيمقراطية»، والسُّؤال: «عبء الدِّيمقراطية الثَّقيل.. كيف الخلاص»؟!
لم تُعطل أصيلة موسمها، وهذا هو العام الأول بعد الأربعين، بدعم محبي الثقافة والفاعلين فيها، مِن الجهات الرَّسمية المغربية وغير الرَّسمية. كانت كآبة خطبة الوداع العام الماضي غير انشراح خطبة الافتتاح لهذا العام. فلم يعد موسم أصيلة مغربياً ولا عربياً ولا أفريقياً، فالحضور جاء متنوعاً مِن أميركا اللاتينية والصين والهند واليابان وأوروبا، حيث اختلاط الثقافات واختلاط الشُّعوب، لهذا نجد حرصاً عاماً على استمرارها، بعد تحصينها مِن التَّرهل والتَّكرار، وحتى هذه اللَّحظة نرى فيها كل جديد، أن تمارس الثَّقافة لشهر كامل، يكون المكان والزَّمان خالياً مِن العِراك العقائدي، فصاحب العقيدة يعتبر سلفاً أن عقيدته فرقة النَّاجية، معصومة لا تقبل الخطأ.
في قضية الدِّيمقراطية، كان عنوان النَّدوة صريحاً، وسؤال وجوابه، نعم أنها عبء ومشكلة كبرى، في بيئة لا تعترف بها مِن الأساس، حتى صارت مادةً للسخرية، في أكثر مِن تجربة لها. كيف تحول رؤساء، مِن ديكتاتوريين إلى ديمقراطيين بغمضة عين.
كذلك بعد أن عدَّ الإسلام السِّياسي الدِّيمقراطية «كافرةً»، فاجأتنا الأحزاب الدِّينية بحرصها على الديمقراطية، مع شرط «الحاكمية الإلهية» بطريقة ما! يتقدم شيخ عشيرة، لا يؤمن إلا بتقاليده العشائرية وزعامته، قائمة انتخابية! يتصدر رجل دين كيان انتخابي، ودعايته مِن على منبر المسجد! كلُّ هذه القوى تجعل مِن الديمقراطية عبئاً ثقيلاً، لأنها تنتج نظاماً مشوهاً، فإذا كان الدّيكتاتور يوفر الأمن والاستقرار النّسبي، أي بما يُحقق حفظ سلطته، فالدِّيمقراطية المشوهة تنتج دكتاتوريات ببلد واحد، ونظاماً فاسداً، يجد استمراريته بكذبة الدِّيمقراطية نفسها.
يوجد تأثير كبير للتاريخ على النِّظام السياسي، فقد عاشت منطقتنا بالذات تحت أنظمة جمعت بين الدِّين والقبيلة، وكلاهما، عندما يتدخلان في السياسة لا يقران الحريات الاجتماعية، أي يهيمنان على المجتمع، ولا يمكن تحقيق ديمقراطية سياسية مِن دون ديمقراطية اجتماعية.
صحيح أن الدِّيمقراطية الغربية تدرجت حتى نضجت عبر السنين، لكنَّ ذلك لم يحصل إلا عبر مقدمات تنويرية، راح في سبيلها العديد مِن المثقفين ضحايا، وحصل تشارك بين المثقف والحاكم في التهيئة لتطبيق الدِّيمقراطية، تجاوزت فترتها عدة قرون (انظر: تاريخ التسامح في عصر الإصلاح). ساعد ذلك وجود حريات اجتماعية مِن الأساس، بينما انطفأت محاولات التَّنوير بمنطقتنا، فالعلاقات العشائرية والتَّقاليد الاجتماعية، باقية نفسها منذ قرون، بل تعرضت مجتمعاتنا إلى انقلابات وهزات.
فهل مِن المعقول أن مجتمعاً عاش تحت وطأة الدكتاتورية يصبح على غرة ممارساً للدِّيمقراطية يحتكم إلى صناديق الانتخاب مِن دون تهيئة ولو لأعوام؟! حتى أسفر الحال عن حروب وكوارث، وجماعات إرهابية، ستعاني منها الشُّعوب لعشرات السنين. كيف لبلد عاش ظروف الديكتاتورية والحروب والحصارات، أن يفتح له الغزو الأجنبي باباً للديمقراطية بلا مقدمات؟!
نعود إلى موسم أصيلة، وديمومة الاستمرار، فالعديد مِن المواسم والمراكز تعتمد على شخص واحد، فلولا هذا المؤسس والمُحتضن ما كان يولد الموسم ولا المركز ولا المؤسسة. إنه أسلوب معمول به بمغربنا ومشرقنا، وعندما يخذل صاحبه الجسد يبدأ المشروع بالتصدع والعجز أيضاً. لكنَّ موسماً عَبْرَ الأربعين عاماً وسيواصل، كموسم أصيلة، لابد مِن التَّفكير بما بعد الأربعين، وما عرفناه أن هناك مؤسسةً تتولى المهمة، فجزء كبير مِن حياة المدينة صار متعلقاً بحياة الموسم نفسه.
إنها إشارة لأصحاب مشاريع ثقافية وبحثية، مِن غير أَصيلة، مِن ذوات الحضور الواسع، السُّنون تجري بسرعة، فلابد مِن التَّفكير بالاستمرارية، عبر المؤسسة لا الفرد، كي لا تشيخ المؤسسة وتعجز بشيخوخة صاحبها الأول!
جريدة الاتحاد