يقال إن الروائيين يعيشون أكثر من حياة واحدة، حياتهم وحياة أبطال رواياتهم (الافتراضية). لكن الروائي الروسي فيودور دوستويفسكي عاش فعلاً مرتين، حياة قبل إعدامه الذي تم، وحياة أخرى بعد إعدامه الذي لم يتم!
يتحدث دوستويفسكي الكهل إلى زوجته الشابة آنا: «كنت واقفاً في الساحة أراقب بفزع ترتيبات الإعدام الذي سينفذ بعد خمس دقائق. كلنا في قمصان الموت موزعين على وجبات من ثلاثة محكومين، وكنت الثامن في التعداد ضمن الوجبة الثالثة. أوثقوا الثلاثة إلى الأعمدة وبعد دقيقتين أُطلق الرصاص على أول وجبتين، ومن ثم يأتي دوري… يا إلهي، ما أشد رغبتي في الحياة… وفي اللحظة الأخيرة أُعلن وقف التنفيذ بأمر من القيصر. حَلّوا وثاقي ورفاقي وقرأوا حكماً جديداً على كلّ منا، وكانت من نصيبي هذه المرة الأشغال الشاقة أربع سنــين، فما أعظم سعادتي . أمضيت بــــقية الأيام قبيل الرحيل إلى المنفى (في سيبيريا) أغنّي وأترنّم في الثكنة كل يوم، ما أشد فرحتي بحياة وُهبت إليّ من جديد». لم يكن يتصور الروائي العظيم أن قراء كُثراً سيكونون أكثر فرحاً بالعفو عنه، إذ في الجزء الثاني من حياته، حياته الثانية، سيكتب دوستويفسكي أعظم الروايات العالمية حتى اليوم: الجريمة والعقاب، المقامر، الأبله، الإخوة كارامازوف. لو تم فعلاً تنفيذ حكم الإعدام، من كان سيكتب لنا تلك الروايات الخالدة؟ حتى العظيم الآخر تـــولستوي، صاحب الحرب والسلام وآنا كارنينا، ما كان ليستطيع كتابة روايات دوستويفسكي كما فعل صاحبها الأصلي، فذاك يستخدم في طبخ رواياته بهارات غير التي يستخدمها هذا تماماً.
لم يعشْ كل الذين عُفي عنهم من الإعدام مثل الذي عاش حياة أخرى، فبعضهم أصيب بالجنون من هول قرار العفو، والبعض الآخر انزوى وانطوى عن الحياة فكأنه أعدم نفسه إذ لم يُعدمه القيصر!أما العنيد دوستويفسكي، المصرّ على استكمال حياته، فلم يكن حكم الإعدام ثم السجن والأعمال الشاقة والمنفى هي المصيبة الوحيدة في حياته، فقد كان مريضاً بالصرع وبالرئوي، وكان فقيراً ومصاباً بداء القمار، وكان مراقباً من الحكومة القيصرية ومطارداً من الدائنين ومحسوداً ومستهدفاً من الكتّاب والنقاد. تقول زوجته آنا غريغوريفنا في مذكراتها عن زوجها: «ولم يبذل النقاد، ما عدا بيلينسكي ودوبروبولوف، آنذاك جهداً للكشف عن موهبته. تجاهله بعضهم، فيما أضمر له البعض الآخر العداء، بل جاهروه به. وعندما أراجع كتاباتهم اليوم بعد خمسة وثلاثين عاماً من وفاة دوستويفسكي، تدهشني بسطحيتها وحقدها الأعمى».
لا تنزعجي يا سيدة آنا، فما زال زوجك حيّاً ومات الحسّاد.
جريدة الحياة