ألف الكاتب الأرجنتيني أدولفو باياي سيزاريز عددا من الكتب مع خورخي لويس بورخيس، إلا أن شهرة سيزاريز لم تبلغ أوجها إلا عام 1940، إثر نشر روايته السابعة “اختراع موريل”، التي يعتبرها بورخيس نفسه من أكثر الروايات المكتوبة بدقة وحرفيّة، كما أنها تحوي العديد من التساؤلات المرتبطة بالواقع وحقيقته، ففي الرواية تتداخل الهلوسة البشريّة مع مقدرات الآلة، ما يدفع القارئ إلى التشكيك في مفاهيم الحياة والموت، خصوصاً حين يكتشف القارئ أن نسخاً مصوّرة وهميّة تلعب أدوار الشخصيات، وتبدو حيّة أكثر منهم، وكأنها خلودهم حين رحلوا عن هذا العالم.
يُقيم المنزل الثقافي لأميركا اللاتينية في العاصمة الفرنسيّة معرضاً بعنوان “اختراع موريل- آلات الصورة”، وفيه يحاول 15 فناناً من مختلف أنحاء العالم طرح الأسئلة ذاتها التي تثيرها الرواية عن الصورة ونسختها، ومحاولة مقاربة الآلة التي اخترعها موريل، والتي تلتقط صورا للأفراد وتكرر عرضها، إلى حين التقاط أرواحهم، ما يسمح لهم بأن يكونوا أحياء إلى الأبد، فمجموعة من الصور الفوتوغرافية والأفلام القصيرة وأعمال التجهيز تحاول خلق عالم تكون فيه نسخنا خالدة، تتجاوز مفاهيم الحياة والموت.
المفاهيم التي يطرحها المعرض عن العلاقة مع النسخة، بوصفها بديلاً عن الواقع، مرتبطة بنظريات ما بعد الحداثة التي ترى أن التكنولوجيا قادرة على استبدال الحقيقة بأخرى اصطناعيّة، فالصور ونُسخها تخلق إيماننا بما حولنا، فإن كانت قادرة على التقاط كل شيء لربما هي قادرة على التقاط “وعينا” بالعالم المرتبط بها أصلا، وهذا ما نراه في عمل للفنان الفرنسي ميشيل بريت، المعروف بدمجه للعوالم الرقميّة مع الممارسة الفنيّة، إذ تحضر مجموعة من بتلات الهندباء على الشاشة التي يمكن للمشاهد أن ينفخ عليها أو يتلمسها لتتطاير بعيداً ضمن الصورة، فالتكنولوجيا تلتقط أفعالنا كبشر، وتتحول إلى امتداد لحواسنا، أشبه بمعبر بين الواقعيّ والمتخيلّ/ الرقميّ، وهذا ما نراه أيضاً في “بورتورية 1” التي أنجزها الفنان الكندي لوك كوروشسني عام 1990، إذ نشاهد وجه امرأة على شاشة موصولة بمؤشر يُمكننا من طرح أسئلة محددة عليها، لتقوم هي بالإجابة عنها لاحقاً.
لا يقتصر المعرض على الأعمال التفاعليّة والتجهيز، إذ يتيح لنا تصفح رسومات الفنان جان بيير موري الذي حوّل الرواية إلى كتاب مصوّر عام 2007، وأفرد عددا من الصفحات لتخيّل آلة موريل. إلا أن أكثر ما يشد الانتباه في المعرض هو عرض الخداع البصري الذي يقدمه بيريك سورين الذي قام بإنتاج عمل مخصص للمعرض، يُمكّن المشاهد من عيش تجربة الرواية ذاتها، عبر استخدام الهولوغرام لخلق أفراد وهميين يتحركون ويعيشون حياتهم الطبيعيّة، ضمن فضاء اصطناعي لا يتجاوز المترين.
المفاهيم التي يطرحها المعرض عن العلاقة مع النسخة، بوصفها بديلاً عن الواقع، مرتبطة بنظريات ما بعد الحداثة
غم من التجهيزات والجهود المبذولة لإقامة المعرض، والمفهوم الروائيّ الذي يسعى لمحاكاته، إلا أنه يبدو ساذجا في عام 2018، فتكنولوجيا التفاعل الرقمي والواقع الافتراضي المرتبطة بالألعاب مثلاً تجاوزت أغلب الأعمال المعروضة، حتى تلك التي صُنعت خصيصاً للمعرض هذا العام، إذ أصبح التفاعل مع صورة واقعيّة أو أيقونة أمراً اعتيادياً أمام الذكاء الاصطناعي الذي يملكه كل منا في هاتفه النقال أو كمبيوتره الشخصي، والذي يتيح عددا لامتناهيا من الأسئلة والمهمّات، لا بضعة خيارات محددة لا يمكن تجاوزها أو التحرك خارجها.
يطرح المعرض تساؤلات عن وحدة العمل الفنيّ ومدى استقلاليته، إذ يمكن النظر إلى أغلب الأعمال على أنها “عملية-process”، أي لا تتحول إلى موضوعة فنيّة دون مشاهد يتدخل فيها، وكأن جهد المتلقيّ هو ما يرسم حدود العمل الفني ويحدد شكله، ليغدو فعل “المشاهدة” حدثاً في حد ذاته، خصوصاً أن هذا التفاعل يتيح عددا لانهائياً من الاحتمالات، ما يجعل الأعمال ذاتها في المعرض أشبه بنسخ أيضاً، تتغير أشكالها دوماً، دون أن يكون لها شكل أصيل ثابت.
جريدة العرب