لا يكاد يخمد سجال بين كاتبين إلا ليبدأ آخر، لا يقل عنه عنفا. وإذا كان العداء ظاهرة إنسانية ضاربة في القدم، تزداد جرعتها مع لحظات ضغط الحياة اليومية، فإن كثيرا من الكتاب يجعلون من الحقد قوتَهم اليومي، وطريقتهم للتمرن على شحنة الغرور الزائدة، وأحيانا ممرهم نحو مجد وهمي لا يستقيم إلا عن طريق تحطيم الآخر، بدل أن يكون ذلك عن طريق الكتابة وقوتها.
ولذلك، لم يعد غريبا أن تحتل نيرانهم غير الصديقة الصفحات الاجتماعية، بينما صار القراء الجدد يحترفون النقر على اللايك، مع إضافة بعض توابلهم من خلال التعليقات.
إنها الصورة الحديثة للسجال الذي لا يولد الأفكار بقدر ما يشكل مصدرا لألم الآخرين، ويسيء، وهذا هو الأخطر، إلى صورة الكاتب لدى القارئ أو الرأي العام.
وأعتقد من باب الانطباع أن هذه الخلافات تسود، على الأقل في حالة المغرب الذي يحفل بتعدد لغاته الأدبية، بشكل أساسيّ بين الأدباء الذين يكتبون باللغة العربية، بينما يتفرغ الآخرون لنسج مساراتهم الأدبية الحقيقية.
وهو الأمر الذي يعكسه ليس فقط ما يُنشر على الصفحات الاجتماعية، ولكن أيضا حواراتُ الكتاب بعيدا عن المنصات، حيث يمتهن الكثيرون النميمة الثقافية بكل أشكالها، وحيث يتم قتل الأب ومعه أفراد العائلة. ولعل ذلك يشكل ظاهرة قد تحتاج إلى دراسة ما، خصوصا في ما يتعلق بالعلاقة المفترضَة بين سلوك الكاتب ولغته.
والحقيقة أن السجال الأدبي، بمعزل عن صورته المشوهة السابقة، كان دائما جزءا من الحراك الأدبي والثقافي. إنه الوجه المشرق للنقد، باعتباره مولدا للأفكار.
وخارج الحالات الراهنة، لنا أن نتأمل كيف استطاع فقهاء وعلماء، اعتدنا أن نصنفهم ضمن المحافظين، أن يمتلكوا القدرة على التناظر والحوار والاختلاف حتى في القضايا التي كانت محاطة بالقدسية. ولعل خير نموذج على ذلك، النقاش الذي هم كلمة “الإخلاص”.
وقد ارتبط الخلاف حولها بما جاء في “رسالة ذي الإفلاس إلى خواص مدينة فاس” التي ألفها الطرابلسي محمد الخروبي، في أواسط القرن السادس عشر، بشأن مفهوم النفي في شهادة لا إله إلا الله. وامتدت هذه المناظرة، التي ارتبطت بمجال علم التوحيد المحاط بسياج ديني لا يسمح بكثير من الاجتهاد والنقاش، والتي كان طرفاها الشيخ عبدالله الهبطي ومحمد بن عيسى التملي، إلى مصنفات عدد من المؤلفين، ومن ذلك تخصيص الحسن اليوسي مؤلفَه “مشرب العام والخاص من كلمة الإخلاص” للموضوع.
والأكيد أن السجالات الأدبية والفكرية لن تتوقف عند هذه اللحظة، بل إنها ستظل ملح كل اللحظات الأدبية والثقافية الإنسانية، باعتبارها الوجه الحقيقي لممارسة الاختلاف. أما الكُتاب الذين يمتهنون النميمة بدل امتلاك القدرة على التناظر عن طريق الأفكار، فقد كُتب علينا أن يكونوا بيننا.
من أين يأتون بهذه القدرة على الحقد، بدل الانتصار لقيم الاختلاف. اسألوا فرويد!
صحيفة العرب