ظللت سنوات طويلة منشغلاً بسؤال: أيهما أكثر تهديداً للغة العربية، اللغات الأجنبية أم اللهجات العامية؟
وقبل أن أقترب من جواب أن اللغات الأجنبية أشد تهديداً، اكتشفت أن هناك تهديداً أكبر منهما، لم ننتبه له وهو يتمدد وينتشر سريعاً.
أعني بذلك الاعتقاد الذي يتنامى عند الجيل الجديد خصوصاً بأن اللغة ليست وسيلة للتعبير عن الهوية بل هي وسيلة للتواصل فقط. برسوخ هذا المفهوم المغلوط (الذي تكافحه «يونيسكو» بالمناسبة) ستصبح مقاومتنا للغات الأجنبية أو العامية ضرباً من العبث!
أتحدث هنا عن الذين لا يرون للغةِ أهميةً في التعبير عن الهوية، أما الذين لا يرون أهمية للهوية نفسها فهؤلاء قضية أخرى لا يطيقها نقاشنا الآن. سبق أن قلت هنا، وفي أكثر من موضع، بأن التاريخ الإنساني القديم والحديث لم يسجل لنا حتى الآن حضارة قامت بغير لغتها. فإذا كنا نتباكى كثيراً على حضارتنا التي سادت ثم بادت، ونريد #استئناف-الحضارة فينبغي أن نعي بأن اللغة العربية هي الرصيف الذي يجب أن تنطلق منه سفن الحضارة.
كلنا يعرف المعادلة الشائعة بأن اللغة تعلو وتزدهر حين تعلو حضارتها، والعكس بالعكس. لكننا قد نتفاجأ بمعادلة معاكسة يقولها بعض المتخصصين بتاريخ الشعوب، بأن الحضارة هي التي تعلو وتزدهر حين تعلو لغتها. وإذ أدرك بأن اللغة ليست غاية في حد ذاتها، فإني أؤمن بأنها أكبر من أن تكون مجرد وسيلة. اللغة ركن أساسي في بناء الهوية، والاعتزاز بالهوية هو عنصر رئيس في بناء الحضارة والتقدم، وما لم يتم إدماج اللغة، أي لغة، في مسار التنمية والإنتاج والتطوير في سبيل ضمان «جودة الحياة» فإن كل صيحات الاستغاثة لإنقاذ اللغة ستتحول إلى صدى يورث الضجيج.
وقد وعى هذا الأمر وآمن به، منذ أربعين عاماً، رجل الأعمال الكويتي محمد الشارخ مؤسس أول كمبيوتر عربي (كمبيوتر صخر) الذي استطاع حينذاك أن يكسر حاجز اللغة أمام الراغبين في التعامل مع التقنية، منذ العام ١٩٨٠. حصلت شركة «صخر» لاحقاً على ثلاث براءات اختراع في حقل البرمجيات العربية من هيئة براءات الاختراع الأميركية في مجال الترجمة والنص العربي المنطوق والتعرف الآلي على الكلام.
التقيت الصخر/ الشارخ قبل البارحة في صالون الذييب الثقافي بالرياض، لأول مرة وجهاً لوجه، بعد أن سمعت عنه وعن نضاله ومبادراته الحضارية الكثير والكثير. وقد أدركت من حديث الشارخ عن المعجم العربي الالكتروني الحديث، الذي يعدّه الآن، المفاهيمَ الدقيقة لمشروعه الكبير من أجل «عصرنة» اللغة العربية لتكون لغة حضارة وتمدّن وتقدم، لا لتبقى لغة أدب وشعر وفن فحسب.
محمد الشارخ متخصص في غير اللغة العربية، وهو غير متقن لقواعد النحو والصرف فقد ينصب الفاعل ويرفع المفعول في حديثه المرتجل، لكن هذا «اللحن اللغوي» في كلامه يتحول إلى «معزوفة» جميلة من المبادرات، إذ هو «الفاعل» الذي يطمح إلى «رفع» اللغة العربية إلى مكانتها اللائقة بها حضارياً.
لغتنا العربية اليوم بحاجة إلى من يجيد عصرنتها، من أمثال محمد الشارخ، أكثر من حاجتها إلى المتنطّعين بأصالتها!
فكأن صراع أهل اللغات اليوم هو بين من يريد إحياء لغته حتى لو مسّتها بعض الشوائب، وبين من يريدها نقيّة حتى لو أدى هذا إلى موتها أو شبه الموت!
جريدة الحياة