كان يذهب كل يوم جمعة إلى الميناء، ينتظر وصول مركب البريد، على أمل أن يتم إخطاره بوصول معاش تقاعده. ظل هكذا طوال خمسة عشر عاماً. كان من قدماء المحاربين في حرب الألف يوم. ينتظر المعاش الذي كان يستحقه من خدمته في الحرب الأهلية، لكن هذا المعاش لم يأت طوال الخمسة عشر عاماً، التي لم يفقد خلالها الأمل، وإن كان فقد كل مدخراته، وأصبح هو وزوجته يعيشان على الكفاف في منزل متواضع على الساحل الكولومبي، وطوال ست وخمسين سنة، منذ أن انتهت الحرب الأهلية الأخيرة لم يفعل الكولونيل شيئاً سوى الانتظار.
كانت هذه هي عقدة رواية الكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز «ليس لدى الكولونيل من يكاتبه». كان الشيء الوحيد الذي يمكن للكولونيل وزوجته بيعه هو ديك المصارعة، الذي ورثاه من ابنهما أغوستين، لكن الكولونيل كان يرفض بيع الديك على أمل أن يفوز في معارك يناير، ليكسب من المراهنات، رغم إلحاح زوجته عليه ببيعه، لتوفير الطعام لهما والعلاج لها، كان يقول لها: «بعد وقت قصير سيصلنا الراتب التقاعدي». وكانت تجيبه: «إنك تقول هذا الكلام منذ خمس عشرة سنة»، فكان يرد: «لهذا لا يمكن أن يتأخر الراتب أكثر». تصمت، ولكن عندما تعود للحديث يبدو للكولونيل وكأن الزمن لم يمر. «إني أشعر أن هذه النقود لن تصل مطلقاً» قالت المرأة. «ستصل» قال الكولونيل. «وإذا لم تصل؟» قالت المرأة. لم يجد صوتاً ليرد عليها.
في نقاش قالت له: «لقد أمضيت حياة بكاملها وأنا آكل التراب، لأجد نفسي الآن أقل اعتباراً من مجرد ديك». «ليس الأمر هكذا» قال الكولونيل. «الجميع سيكسبون من الديك إلا نحن، فنحن الوحيدون الذين لا نملك سنتاً واحداً لنراهن به» قالت الزوجة. «لصاحب الديك حق يناله، هو عشرون في المئة» رد الكولونيل. «وكان لك حق أيضاً بالحصول على منصب لائق عندما كانوا يمزقون جلدك في الانتخابات.، ولك الحق أيضاً بالحصول على راتبك التقاعدي كونك محارباً قديماً بعد أن حشرت أنفك في الحرب الأهلية، ولكن ها هم الآن يعيشون جميعاً حياتهم المأمونة، بينما أنت وحيد تماماً، تموت جوعاً» ردت المرأة.
فكر الكولونيل في بيع أشياء كثيرة ليس من بينها الديك. «ماذا إذا لم نتمكن من بيع شيء؟» قالت المرأة. «عندها يكون يوم العشرين من يناير قد أتى. ويومها سيدفعون لنا عشرين في المئة من قيمة المراهنات» أجابها الكولونيل. «هذا إذا كسب الديك، ولكن إذا ما خسر.. ألم يخطر ببالك أن الديك قد يخسر؟» قالت المرأة. «إنه ديك لا يمكن أن يخسر» قال الكولونيل. «ولكن افترض أنه خسر» قالت المرأة. «ما زال أمامنا خمسة وأربعون يوماً لنبدأ التفكير بهذه الأمور». سيطر اليأس على المرأة فسألته: «حتى ذلك الحين، ماذا سنأكل؟» ثم جذبت الكولونيل من عنق قميصه الداخلي وهزته بقوة، «قل لي، ماذا سنأكل؟». لقد احتاج الكولونيل لخمس وتسعين سنة، الخمس وتسعون سنة، التي عاشها دقيقة بدقيقة، ليصل إلى هذه اللحظة، فأحس بالنقاء، الوضوح، وبأنه لا يقهر، في اللحظة التي رد عليها…، وكان رده ينم عن يأس وغضب.
فكرة الانتظار ليست طارئة على الأدب، فهناك روايات وقصص ومسرحيات كثيرة قائمة على هذه الفكرة. لعل أشهرها مسرحية الكاتب الأيرلندي الحائز جائزة نوبل صمويل بيكيت الشهيرة «في انتظار غودو». تلك المسرحية التي لاقت نجاحاً منقطع النظير عندما عرضت أول مرة عام 1953 في باريس، محققة لبيكيت شهرة واسعة. وجرى التصويت على أنها أهم مسرحية في القرن العشرين باللغة الإنجليزية في استطلاع للرأي، أجراه المسرح الوطني الملكي البريطاني عام 1990، رغم أن النسخة الأولى التي عرضت منها كتبها بيكيت باللغة الفرنسية. تدور أحداث المسرحية حول فلاديمير واستراغون، اللذين ينتظران عند شجرة مجردة من الأوراق شخصاً، لا يصل أبداً، يدعى غودو. وأثناء انتظارهما لغودو ينخرطان في محاورات، ويقابلان ثلاث شخصيات أخرى.
انتظار المخلّص، الذي هو في رواية ماركيز المعاش المستحق، الذي لا يأتي، وهو في مسرحية بيكيت «غودو» الذي لا يأتي أيضاً، هذا الانتظار ليس طارئاً في حياة البشر، بل لعله يكون هو الدافع لمواصلة الحياة، حيث يبدو بصيص الأمل ظاهراً، ولكن ماذا لو خسر الديك؟ سوف يبقى السؤال معلقاً حتى تصل رسالة الكولونيل، الذي ليس لديه من يكاتبه، أو يصل غودو، الذي لا يصل أبداً.