كانت أمها قد أخبرتها ذات يوم أن الطفولة موجة زرقاء هائلة ترفعك عالياً وتدفعك إلى أمام، وحين تظنين أنها لن تنتهي إذ بها تختفي عن الأنظار، فلا يعود في وسعك اللحاق بها ولا إعادتها. وُلِدت جميلة في الصومال لأب مسلم وأم مسيحية. كانت سنوات عمرها المبكرة حرة، وغاية في السعادة، وإن لم تدرك ذلك إلا بعد أن انقضت وصارت جزءاً من الذاكرة.
جميلة الصومالية هي إحدى بطلات رواية الكاتبة التركية أليف شفاق «10 دقائق و38 ثانية في هذا العالم الغريب». عنوان ربما يبدو طويلاً بمقياس عناوين الروايات، لكنه العنوان الأنسب لموضوع الرواية التي صدّرتها صاحبة «قواعد العشق الأربعون» بعبارة لألبرت آينشتاين يقول فيها عن وفاة أقرب أصدقائه ميشيل بيسو: «مرة أخرى، سبقني الآن بقليل في الرحيل عن هذا العالم الغريب.
لكن هذا غير مهم؛ فنحن، الذين نؤمن بالفيزياء، نعرف أن الفصل بين الماضي والحاضر والمستقبل ليس سوى وهم عنيد لا سبيل إلى إنكاره». في طفولتنا نحسب أننا نمسك بالخيوط كلها، نشكل الأشياء كيفما نشاء، نبني قصوراً وقلاعاً نظن أنها حصينة، من الصعب الإطاحة بها.
عندما نكبر نكتشف أن هذه القصور والقلاع مبنية من الرمال دون أساس إلا من براءتنا الشفيفة العذبة، لا تستطيع الصمود أمام موجة من أمواج الحياة حتى لو لم تكن عاتية، ولا الوقوف أما هبة ريح حتى لو لم تكن عاصفة. قليل منا من يتقبل هذه الحقيقة، والكثيرون يرفضونها معتقدين أن عوامل خارجية أدت إلى سقوط هذه القصور والقلاع.
هل صحيح أن الفصل بين الماضي والحاضر والمستقبل ليس سوى وهم عنيد لا سبيل إلى إنكاره، كما يقول عالم الفيزياء الشهير ألبرت آينشتاين؟ ربما كان آينشتاين هو أكثر الناس قدرة على الإجابة عن هذا السؤال، فهو صاحب نظرية النسبية الخاصة الذي اعتبر الزمن بعداً رابعاً أضافه إلى الأبعاد الثلاثة التي اكتشفها الفيزيائيون قبله، على اعتبار أنه بعد موجود في الكون، وإن لم يكن هو ذلك البعد الذي من الممكن أن نشعر به. وقد قامت نظرية النسبية الخاصة على هذا البعد، الأمر الذي غيّر من القياسات التقليدية المتعارف عليها في الفيزياء العادية.
في روايتها «دفاتر فارهو» تقلّب الكاتبة العمانية ليلى عبدالله ذاكرة الطفل «فارهو» الهارب من جحيم الحروب الأهلية والمجاعة التي تعصف بوطنه الصومال موغلة في مرحلة طفولته. بشكل آخر كان «فارهو» هو الذي يقلب في ذاكرته مستعرضاً قصة فراره مع أمه وشقيقته بحثاً عن الأمان الذي ينشدونه.
«لقد تركنا أوطاننا لأنها خالية من الأمان رغم أنها فائضة بالأسلحة. في صغرنا كنا نعتقد أن السلاح وجد لحمايتنا، ليحمي الإنسان من الأشرار، لكن عندما كبرنا قليلاً، كبرنا بمرور الأوغاد، بمرور المصائب والكوارث والمجاعات، لا بمرور الزمن». هكذا قال فارهو للصحفي الأمريكي كارل الذي كان يعد لفيلم وثائقي عن حياته.
تلك واحدة من أكبر المآسي التي يمكن أن يعاني منها طفل يحلم بالأمان في وطنه، فلا يسمع سوى أصوات الرصاص والقنابل والانفجارات التي تقتل وتدمر في كل مكان، ولا يرى سوى صور الجثث والدمار والخراب الذي يجتاح وطنه.
«ليت الزمن يعود للوراء، حينها سأشرع أبواب قلبي الموصدة كلها، سأتقيأ أسراري كلها دفعة واحدة، كما لو أنني محكوم بقطع لساني». يقول لكارل الذي يحاول أن ينفذ إلى أقصى نقطة في ذاكرة فارهو، الذي كان قد تجاوز العقد الرابع من عمره وقتها. عودة الزمن إلى الوراء حلم يراود الجميع.
ليس في بطون الكتب والروايات فقط، وإنما في عقول ونفوس جميع البشر. جميلة وفارهو الصوماليان في روايتي أليف شفاق وليلى عبدالله لا يمثلان حالة استثنائية، ولكنهما يعبران عن كل الذين تجاوزوا مرحلة الطفولة تاركين مساحة تكفي لازدحام الذاكرة بالأحداث والصور.
«وطن يستحم بالدم وهو عارٍ، يستبيحون عريه وهو يقهقه بهستيريا كحيوان جريح يدّعي القوة بكبرياء». كانت هذه العبارة تمر أمام عيني في الرواية على لسان فارهو عندما كان مذيع التلفزيون يقرأ خبراً عن وقوع انفجار ضخم في مقديشو. أحسست ساعتها أن الروايات لا تختلف كثيراً عن الواقع. تعاطفت مع جميلة وفارهو، ورثيت لأهل الصومال الذي كان ذات يوم واحداً من أهم مركز التجارة العالمية.
جريدة البيان