صورة باللونين الأبيض والأسود، أرسلها لي أحد الأصدقاء. من بين الوجوه الستة التي كانت تضمها الصورة بدا لي وجه أعرفه جيداً.. إنه وجهي. تاريخ الصورة يعود إلى أواخر السبعينيات. هذا يعني أن أكثر من أربعة عقود مضت على تلك الصورة. مكان الصورة نادي طلبة الإمارات في القاهرة. اقترح صديقي، الذي كان واحداً من أصحاب الوجوه الستة، أن أكتب عن الزمن. قلت له مازحاً: سنفضح أنفسنا. رد: لكنها ذكريات جميلة لحقبة لن تتكرر أبداً. أجبته: صحيح.. الماضي لا يعود أبداً. وحدها الذكريات تبقى.
فتح الحوار باباً للإبحار في الزمن؛ كيف نحس بمروره، متى نشعر أنه يمضي بطيئاً، ومتى نشعر أنه يسابق الريح. تذكرت أحد الأصدقاء وهو يقول لي ذات مناسبة حاشدة: لقد مضى العمر سريعاً، مرّ مثل حلم خاطف لم نشعر بمروره. لم يفاجئني التعبير فابتسمت ولم أعلق. ننشغل بالحياة فلا نتوقف عند عدد السنوات التي مرت من أعمارنا. لكن المفاجأة تلجم ألسنتنا عندما نتوقف في محطة من محطات العمر ملتفتين وراءنا فلا نرى إلا سراباً لا نستطيع إدراكه أو الإمساك بشيء منه. هذه قضية لم تشغلنا وحدنا، بل شغلت الكثير من الفلاسفة والعلماء الذين كرسوا حياتهم لها. أدرك الكُتّاب حاجة الناس للإمساك بالزمن فكتبوا روايات تنقلهم عبره ذهاباً وإياباً. كتب هربرت جورج ويلز «آلة الزمن».. وكتب تشارلز ديكنز «ترنيمة عيد الميلاد».. وكتب إدوارد بيدج ميتشيل «الساعة التي دارت إلى الوراء».
أعود مرة أخرى إلى الصورة القديمة التي أعاد إرسالها لي أكثر من صديق على مدى الأيام الماضية فأمعن النظر فيها كأنني أراها للمرة الأولى. جالسين على الأرض مستندين إلى جدار الغرفة كانت عيوننا تنظر ناحية الكاميرا وعلى الوجوه ابتسامات وضحكات. ترى ما الذي كان يدور في رؤوس أصحاب تلك الوجوه وقتها؟ أي قدر من الأحلام والأمنيات كانت نفوسهم تختزن؟ كانت الحياة وقتها أمامهم، فهل تُراها أصبحت اليوم خلفهم؟ تفرقت بهم الدروب واختلفت الموانيء التي ألقوا بمراسي سفنهم المبحرة فيها. ربما يعرف الواحد منهم الخطوط العريضة عن رحلة حياة صاحبه لكنه يجهل التفاصيل، وفي التفاصيل تكمن الأسرار وتختبيء الأوجاع والمسرات.
«الزمن ليس حليفاً لك. الزمن هو العدو. كيف يمكنك أن توقف هذا النهر الأبدي الذي يسمونه الزمن؟ إنه يجري بعيداً». قال فيصل بطل رواية «خرائط التيه» للكاتبة الكويتية بثينة العيسى، محدثاً نفسه وهو يبحث في أنحاء مكة عن ابنه مشاري ذي الأعوام السبعة. كانت يد مشاري قد انفكت عن يد أمه سمية، وهما يطوفان حول الكعبة يوم السابع من ذي الحجة الساعة 12:16 ظهراً، بعد أن اصطدم بهما وفد حجاج آسيوي كان يسير متماسك الأيدي. غاب الطفل وسط جموع الحجاج الذين كانوا يطوفون حول الكعبة ساعتها، لتبدأ رحلة البحث عن طفل ضئيل الحجم وسط مئات آلاف الحجاج القادمين من كل أصقاع الدنيا. كانوا كمن يبحثون عن إبرة وسط كومة قش. أصبح الزمن، الذي يجري بعيداً صوب الاحتمالات المؤسفة، هو العدو الأول الذي يواجهه فيصل وسمية فيعرّيهما ويكشف عن هشاشة نفسيهما، ويعيد رسم خطوط الطول والعرض بينهما.
الزمن كان يرسم خطوطه أيضاً على وجه روز بطلة فيلم «تايتنيك» وهي تروي في بداية الفيلم حكايتها لصائد الكنوز بروك لوفيت. كان لوفيت وفريقه يقومون بالبحث في حُطام السفينَة تحت مياه المحيط عن قلادَة الألماس النادرة «قلب المحيط». كان يُعتقَد أن القلادة ضمن مقتنيات روز في السفينة التي اصطدمت بجبل جليد في المحيط يوم الرابع عشر من شهر إبريل 1912م، وغرقت بعد أربعة أيام من إبحارها من لندن في طريقها إلى نيويورك فأصبحت أسطورة لباخرة عملاقة انتهت حكايتها قبل أن تبدأ. برع كاتب الفيلم ومخرجه جيمس كاميرون في المزج بين وجه الممثلة غلوريا ستيوارت، التي أدت دور روز بعد أن تجاوز عمرها المئة عام، وبين وجه الممثلة كيت وينسليت التي أدت دور روز عندما كان عمرها 17 عاما وقت غرق السفية. برع كاميرون في تصوير آثار الزمن على وجه روز منذ أن كانت شابة تتقافز على ظهر السفينة، تنتقل من الدرجة الأولى، حيث تقيم مع أمها وخطيبها الغني كال، إلى الدرجة الثالثة حيث تخوض تجربة حبها الحقيقي مع الرسام المفلس جاك، الذي أدى دوره الممثل رونالدو ديكابريو، وحتى جاوز عمرها المئة عام.
كيف يمكن يا صديقى أن نمسك بالزمن وهو يتفلت من بين أصابعنا مثل حبات الزئبق؟ وحدها الذكريات والصور ما يبقى بعد أن يتركنا الزمن خلفه أو نتركه خلفنا.
جريدة البيان